سبع مسائل فقهیه: دراسه مبسطه لمسائل فقهیه خلافیه علی ضوآ الکتاب و السنه

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی، جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور : سبع مسائل فقهیه: دراسه مبسطه لمسائل فقهیه خلافیه علی ضوآ الکتاب و السنه/ تالیف جعفر السبحانی

مشخصات نشر : [تهران]: نشر مشعر، 1416ق. = 1374.

مشخصات ظاهری : ص 128

فروست : (علی مائده العقیده 8)

شابک : 1600ریال

يادداشت : عربی

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

موضوع : احادیث

رده بندی کنگره : BP183/5/س2س2 1374

رده بندی دیویی : 297/342

شماره کتابشناسی ملی : م 75-8299

ص:1

اشارة

ص: 2

المقدمة

قال اللَّه تبارك وتعالى:

«وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ». التوبة/ 122

ص: 3

على مائدة العقيدة 5

سبع مسائل فقهيّة

دراسة مبسّطة لمسائل فقهيّة خلافيّة على ضوء الكتاب والسنّة

تأليف

جعفر السبحاني

ص: 4

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

وبه وحده نستعين وعليه وحده نتوكل

والحمد للَّه ربّ العالمين، والصَّلاة والسلام على سيد رُسُله، وخاتم أنبيائه وآله ومن سار على خطاهم وتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يولي المسلمون أهميّة كبرى للعقيدة الصحيحة لأنّها تشكّل حجر الزاوية في سلوكهم ومناراً يضي ءُ دروبهم وزاداً لمعادهم.

ولهذا كرّسَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في الفترة المكيّة من حياته الرسالية نفسه لإرساء أُسس التوحيد الخالص، ومكافحة الشرك والوثنية، ثم بنى عليها في الفترة المدنية صَرحَ النظامِ الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسيّ.

ولهذا- ونظراً للحاجةِ المتزايدة- رأينا أن نقدّم للأُمةِ الإسلاميّة الكريمة دراسات عقائدية عابرة مستمدَّةٍ من كتاب اللَّهِ العزيز، والسُنّةِ الشريفة الصحيحة، والعقل السليم، وما اتَّفق عليه علماءُ الأُمةِ الكرام، تُروي ظمأَ العطشانِ، وتلَبّي حاجةَ المشتاق، وتساعد على إيقاظ الأُمة، وتوحيد صفوفها، واللَّه الموفِّق.

معاونيّة التعليم والبحوث الإسلاميّة

ص: 5

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحقيقةُ بنت البحث

إنّ الفقه الإسلامي عطاءٌ كبير ورثة الخلف عن السلف عبر جهود جبّارة بذلها علماءُ الأُمّة وفقهاؤُها المتقدّمون والمتأخّرون.

وقد رامَ هؤلاءُ العلماء والفقهاء الوصولَ إلى التشريع الحقيقي الذي جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله في الكتاب والسنّة، فمنهم من أصاب ومن أخطأ.

وهذا الجهد العظيم وإن خَلَّفَ تراثاً فقهيّاً وفكرياً عظيماً تعتزّ به الأُمّة، إلّاأنّه إنتهى إلى الخلاف في جملة من المسائل بعد الإتفاق في أكثرها.

وحيث لم يكن حتميّاً أن تبقى المسائلُ الخلافية خلافيّةً إلى الأبد فمن الممكن أن يصل الفقهاءُ- لو بذلوا جهودهم في دراسة الخلافيّات بعيداً عن التقليد لأيّ مذهبٍ من المذاهب- إلى وَحدة النظر، واتفاق الرأي فيها.

وقد أثبتت التجربةُ هذه الثمرةَ الحلوةَ، ولأجل ذلك عمدنا- في هذه الرسالة- إلى طرح مسائل سبع اختلفت فيها مواقف الفقهاء وأنظار

ص: 6

العلماء على بساط البحث المجدّد، ورائدنا في هذه الدراسة: الكتاب والسنّة.

وأنا أُقدّم حصيلة جهودي هذه إلى فقهاء الأُمّة الذين يهمّهم مصير الأُمّة، وتشتاق نفوسهم إلى وحدتها وعزّتها.

10 رمضان المبارك/ عام 1415 ه

جعفر السبحاني

ص: 7

المسألة الأُولى: الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه و آله

اشارة

لقد طال النزاع في الآونة الأخيرة عن طريق وسائل الإعلام وغيرها حول الاحتفال بمولد النبي الأكرم، وقد رفع بعضهم شعار البدعة فيه، بينما يراه الأكثرون أنّه من السنّة. وإليك دراسة الموضوع في ضوء الأدلّة.

حبّ النبي أصل في الكتاب والسنّة

قد عرفت أنّ العنصر المقوّم للبدعة هو عدم الدليل على جواز العمل، فلو كان هناك دليل خاص على جواز العمل، أو دليل عام يشمل المصاديق المحدثة فليس ذلك ببدعة، وقد ذكرنا لك أمثالًا كثيرة، وفي

ص: 8

ضوء ما ذكر نركّز في هذا الفصل على وجود دليل عام على الاحتفال بيوم ميلاده، وإن لم يكن هناك دليل خاص، وأمّا الدليل فكما يلي:

الحبّ والبغض خلّتان تتواردان على قلب الإنسان، تشتدّان وتضعفان، ولنشوئهما واشتدادهما أو ضعفهما عوامل وأسباب.

ولا شكّ أنّ حبّ الإنسان لذاته من أبرز مصاديق الحبّ، وهو أمر بديهي لا يحتاج إلى بيان، وجبلي لا يخلو منه إنسان ومن هذا المنطق حبّ الإنسان لما يرتبط به أيضاً، فهو كما يحبّ نفسه يحب كذلك كلّ ما يمت إليه بصلة، سواء كان اتّصاله به جسمانياً، كالأولاد والعشيرة، أو معنوياً، كالعقائد والأفكار والآراء والنظريات التي يتبنّاها، وربّما يكون حبّه للعقيدة أشدّ من حبّه لأبيه وأُمّه، فيذبّ عن حياض العقيدة بنفسه ونفيسه، وتكون العقيدة أغلى عنده من كلّ شي ء حتى نفسه التي بين جنبيه.

فإذا كانت للعقيدة هذه المنزلة العظيمة تكون لمؤسّسها ومغذّيها والدعاة إليها منزلة لا تقل عنها إذ لولاهم لما قام للعقيدة عمود، ولا اخضرّ لها عود، ولأجل ذلك كان الأنبياء والأولياء بل جميع الدعاة إلى الأمور المعنوية والروحية محترمين لدى جميع الأجيال، من غير فرق بين نبي وآخر، ومصلح وآخر، فالإنسان يجد من صميم ذاته خضوعاً تجاههم، وإقبالًا عليهم.

ولهذا لم يكن عجيباً أن تحترم، بل تعشق النفوس الطيبة، طبقة الأنبياء والرسل، منذ أن شرّع اللَّه الشرائع وبعث الرسل، فترى أصحابها يقدّمونهم على أنفسهم بقدر ما أُوتوا من المعرفة والكمال.

ص: 9

حبّ النبي في الكتاب

ولوجود هذه الأرضية في النفس الإنسانية والفطرة البشريّة، تضافرت الآيات والأحاديث على لزوم حبّ النبي وكلّ ما يرتبط به، وليست الآيات إلّاإرشاداً إلى ما توحي إليه فطرته، قال سبحانه: «قُلْ انْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَاخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبُّ الَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ» (التوبة/ 24).

وقال سبحانه: «وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَانَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ» (المائدة/ 56).

ويقول سبحانه: «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (الأعراف/ 157).

فالآية الكريمة تأمر بأُمور أربعة:

1- الإيمان به.

2- تعزيره.

3- نصرته.

4- اتّباع كتابه وهو النور الذي أُنزل معه.

وليس المراد من تعزيره؛ نصرته، لأنّه قد ذكره بقوله: «وَنَصَرُوهُ» وإنّما المراد توقيره، وتكريمه وتعظيمه بما أنّه نبيّ الرحمة والعظمة، ولا يختصّ تعزيره وتوقيره بحال حياته بل يعمّها وغيرها، تماماً كما أنّ الإيمان به والتبعيّة لكتابه لا يختصّان بحال حياته الشريفة.

ص: 10

هذه هي العوامل الباعثة إلى حبّ النبيّ صلى الله عليه و آله وهذه هي الآيات المرشدة إلى ذلك.

ولأجل دعم المطلب نذكر بعض ما ورد من الروايات في الحثّ على حبّه ومودّته.

حبّ النبيّ صلى الله عليه و آله في السنّة

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

1- «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده والناس أجمعين».

2- «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ الناس إليه من والده وولده».

3- «ثلاث من كنّ فيه ذاق طعم الإيمان: من كان لا شي ء أحبّ إليه من اللَّه ورسوله، ومن كان لئن يحرق بالنار أحبّ إليه من أن يرتدّ عن دينه، ومن كان يحبّ للَّه ويبغض للَّه».

4- «واللَّه لا يكون أحدكم مؤمناً حتى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده».

5- «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه».

6- «من أحبّ اللَّه ورسوله صادقاً غير كاذب، ولقى المؤمنين فأحبّهم، وكان أمر الجاهلية عنده كمنزلة نار أُلقي فيها، فقد طعَم طعْم الإيمان، أو قال: فقد بلغ ذروة الإيمان».

إنّ الذي يرى سعادته في ما جاء به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من شريعة

ص: 11

ودين، هو الذي يذوق طعم الإيمان، وتذوّق طعم الإيمان لا يتحقّق إلّا عندما يستنّ الإنسان بسنّة رسول اللَّه، ويعمل بشريعته فيحصل على سعادته.

7- عن أبي رزين قال: قلت يا رسول اللَّه ما الإيمان؟ قال: «أن تعبد اللَّه ولا تشرك به شيئاً، ويكون اللَّه ورسوله أحبّ إليك ممّا سواهما، وتكون أن تحرق بالنار أحبّ إليك من أن تشرك باللَّه شيئاً، وتحبّ غير ذي نسب لا تحبّه إلّاللَّه، فإذا فعلت ذلك فقد دخل حبّ الإيمان في قلبك كما دخل قلب الظمآن حبّ الماء في اليوم القائظ».

8- «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون اللَّه ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما».

9- عن أنس أنّ رجلًا سأل النبيّ صلى الله عليه و آله عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال: «وما أعددت لها؟» قال: لا شي ء، إلّاأنّي أُحبّ اللَّه ورسوله، فقال: «أنت مع من أحببت». قال أنس: فما فرحنا بشي ء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه و آله: «أنت مع من أحببت».

10- أبو ذر قال: يا رسول اللَّه الرجل يحبّ القوم ولا يستطيع أن يعمل بعملهم؟ قال: «أنت يا أبا ذر مع من أحببت». قال: فإنّي أُحبّ اللَّه ورسوله، قال: «فإنّك مع من أحببت»، قال: فأعاد (ها) أبو ذر، فأعادها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

11- «من أحيا سنّتي فقد أحبّني ومن أحبّني كان معي في الجنّة».

12- «والذي نفس محمد بيده ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني، ثمّ لئن يراني أحبّ إليه من أهله وماله معهم».

ص: 12

13- «إنّ أحدكم سيوشك أن يحبّ ينظر إليّ نظرة بما له من أهل وعيال».

14- من أشدّ أُمّتي لي حُباً أُناس يكونون بعدي، يودّ أحدهم لو رآني بأهله وماله».

15- «أشدّ أُمّتي لي حبّاً قوم يكونون بعدي يودّ أحدهم أنّه فقد أهله وماله وأنّه رآني».

16- «إنّ أُناساً من أُمّتي يأتون بعدي يودّ أحدهم لو اشترى رؤيتي بأهله وماله».

17- «من دعا بهؤلاء الدعوات في دبر كلّ صلاة مكتوبة حلّت له الشفاعة منّي يوم القيامة: اللّهمّ اعط محمد الوسيلة، واجعل في المصطفين محبّته، وفي العالمين درجته، وفي المقرّبين ذكر داره».

18- «من قال في دبر كلّ صلاة مكتوبة: «اللّهمّ اعط محمد الدرجة والوسيلة، اللّهمّ اجعل في المصطفين محبّته وفي العالمين درجته، وفي المقرّبين ذكره» من قال تلك في دبر كلّ صلاة فقد استوجب عليّ الشفاعة، ووجبت له الشفاعة».

وقد روي عن أبي بكر قال: الصلاة على النبيّ صلى الله عليه و آله أمحق للخطايا من الماء للنار، والسلام على النبي صلى الله عليه و آله أفضل من عتق الرقاب، وحبّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أفضل من عتق الأنفس أو قال: من ضرب السيف في سبيل اللَّه عزّوجلّ (1)1.


1- راجع للوقوف على هذه الأحاديث ونظائرها جامع الأصول ج 1 نقلًا عن صحيح البخاري ومسلم والترمذي والنسائي- وكنز العمال ج 2 و 6 و 12.

ص: 13

اختلاف الأُمّة في درجات حبّهم للنبي صلى الله عليه و آله

وليست الأُمّة المؤمنة في ذلك شرعاً سواء، بل هم فيه متفاوتون على اختلاف درجات عرفانهم به كاختلافهم في حبّ اللَّه تعالى.

قال الامام القرطبي: «كلّ من آمن بالنبي صلى الله عليه و آله إيماناً صحيحاً لا يخلو عن وجدان شي ء من تلك المحبّة الراجحة غير أنّهم متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظّ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحظّ الأدنى، كم كان مستغرقاً في الشهوات، محجوباً في الفضلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبيّ صلى الله عليه و آله اشتاق إلى رؤيته بحيث يؤثرها على أهله وولده وماله ووالده، ويبذل نفسه في الأُمور الخطيرة، ويجد مخبر ذلك من نفسه وجداناً لا تردّد فيه»(1)2.

مظاهر الحبّ في الحياة

إنّ لهذا الحبّ مظاهر، إذ ليس الحبّ شيئاً يستقر في صقع النفس من دون أن يكون له انعكاس خارجي على أعمال الإنسان وتصرّفاته، بل انّ من خصائص الحبّ أن يظهر أثره على جسم الإنسان وملامحه، وعلى قوله وفعله، بصورة مشهودة وملموسة.

فحبّ اللَّه ورسوله الكريم لا ينفك عن اتّباع دينه، والاستنان بسنّته، والإتيان بأوامره والانتهاء عن نواهيه، ولا يعقل أبداً أن يكون المرء محبّاً لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله أشدَّ الحبّ، ومع ذلك يخالفه فيما يبغضه


1- فتح الباري لابن حجر 1: 50- 51.

ص: 14

ولا يرضيه، فمن ادّعى حباً في نفسه وخالفه في عمله، فقد جمع بين شيئين متخالفين متضادّين.

ولنعم ما قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام في هذا الصدد موجهاً كلامه إلى مدّعي الحبّ الإلهي كاذباً:

تعصي الإله وأنتَ تظهر حبّه هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبّك صادقاً لأطعته إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع (1)3

للحبّ مظاهر وراء الاتباع

نعم لا يقتصر أثر الحبّ على هذا، بل له آثار أُخرى في حياة المحب، فهو يزور محبوبه ويكرمه ويعظّمه ويزيل حاجته، ويذبّ عنه، ويدفع عنه كلّ كارثة ويهيئ له ما يريحه ويسرّه إذا كان حيّاً.

وإذا كان المحبوب ميّتاً أو مفقوداً حزن عليه أشدّ الحزن، وأجرى له الدموع كما فعل النبي يعقوب عليه السلام عندما افتقد ولده الحبيب يوسف عليه السلام فبكاه حتى ابيضّت عيناه من الحزن، وبقي كظيماً حتى إذا هبّ عليه نسيم من جانب ولده الحبيب المفقود، هشَّ له وبشَّ، وهفا إليه شوقاً وحبّاً.

بل يتعدّى أثر الحبّ عند فقد الحبيب وموته هذا الحدّ، فنجد المحبّ يحفظ آثار محبوبه، وكلّ ما يتّصل به، من لباسه وأشيائه، كقلمه ودفتره وعصاه ونظّارته. كما ويحترم أبناءه وأولاده، ويحترم جنازته


1- سفينة البحار، مادة «حب».

ص: 15

ومثواه، ويحتفل كلّ عام بميلاده وذكرى موته، ويكرمه ويعظّمه حبّاً به ومودّة له.

إلى هنا ثبت، أنّ حبّ النبي وتكريمه أصل من أُصول الإسلام لا يصحّ لأحد إنكاره، ومن المعلوم أنّ المطلوب ليس الحبّ الكامن في القلب من دون أن يرى أثره على الحياة الواقعية، وعلى هذا يجوز للمسلم، القيام بكلّ ما يعدّ مظهراً لحبّ النبي، شريطة أن يكون عملًا حلالًا بالذات، ولا يكون منكراً في الشريعة، نظير:

1- تنظيم السنّة النبويّة؛ وإعراب أحاديثها، وطبعها، ونشرها بالصور المختلفة، والأساليب الحديثة، وفعل مثل هذا بالنسبة إلى أقوال أهل البيت وأحاديثهم.

2- نشر المقالات والكلمات؛ وتأليف الكتب المختصرة والمطوّلة حول حياة النبي وعترته، وإنشاء القصائد بشتّى اللغات والألسن في حقّهم، كما كان يفعله المسلمون الأوائل.

فالأدب العربي بعد ظهور الإسلام يكشف عن أنّ إنشاء القصائد في مدح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان ممّا يعبّر به أصحابها عن حبّهم لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله. فهذا هو كعب بن زهير ينشئ قصيدة مطوّلة في مدح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله منطلقاً من إعجابه وحبّه له صلى الله عليه و آله، فيقول في جملة ما يقول:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيّم إثرها لم يُفْد مكبول

نُبِّئتُ أنّ رسول اللَّه أوعدني والعفوُ عند رسول اللَّه مأمول

ويقول:

مهلًا هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل

إنّ الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف اللَّه مسلول (1)4

وقد ألقى هذه القصيدة في حضرة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأصحابه، ولم ينكر عليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وهذا هو حسّان بن ثابت الأنصاري يرثي النبيّ صلى الله عليه و آله، ويذكر فيه مدائحه، ويقول:

بطيبة رسم للرسول ومَعْهَدمُنير وقد تعفو الرسوم وتحمد

إلى أن قال:

يدلّ على الرحمان من يقتدي به وينقذ من هول الخزايا ويرشد

إمام لهم يهديهم الحقّ جاهداًمعلم صدقٍ إن يطيعوه يَسْعَدوا(2)5

وهذا هو عبد اللَّه بن رواحة ينشئ أبياتاً في هذا السياق فيقول فيها:

خلّوا بني الكفار عن سبيله خلّوا فكلّ الخير في رسوله

يا ربّ إنّي مؤمن بقيله أعرف حقّ اللَّه في قبوله (3)6

هذه نماذج ممّا أنشأه الشعراء المعاصرون لعهد الرسالة في النبيّ الأكرم ونكتفي بها لدلالتها على ما ذكرنا.

ولو قام باحث بجمع ما قيل من الأشعار والقصائد حول النبي


1- السيرة النبوية لابن هشام 2: 513.
2- السيرة النبوية لابن هشام 2: 666.
3- المصدر نفسه 2: 371.

ص: 16

ص: 17

الأكرم لاحتاج في تأليفه إلى عشرات المجلّدات. فإنّ مدح النبيّ كان الشغلَ الشاغل للمخلصين والمؤمنين منذ أن لبّى الرسول دعوة ربّه، ولا أظنّ أنّ أحداً عاش في هذه البسيطة، ونال من المدح بمقدار ما ناله الرسول صلى الله عليه و آله من المدح بمختلف الأساليب والنظم.

وهناك شعراء مخلصون أفرغوا فضائلَ النبيّ ومناقبه في قصائد رائعة وخالدة، مستلهمين ما جاء في الذكر الحكيم والسنّة المطهّرة في هذا المجال، فشكر اللَّه مساعيهم الحميدة وجهودهم المخلصة.

3- تقبيل كلّ ما يمتّ إلى النبيّ بصلة؛ كباب داره، وضريحه وأستار قبره، انطلاقاً من مبدأ الحبّ الذي عرفت أدلّته. وهذا أمر طبيعي وفطري، فبما أنّ الإنسان المؤمن لا يتمكّن بعد رحلة النبي صلى الله عليه و آله من تقبيل الرسول صلى الله عليه و آله (1)7 فيقبّل ما يتّصل به بنوع من الاتصال، وهو كما أسلفنا أمر طبيعي في حياة البشر حيث يلثمون ما يرتبط بحبيبهم ويقصدون بذلك نفسه. فهذا هو المجنون العامري كان يقبّل جدار بيت ليلى ويصرّح بأنّه لا يقبّل الجدار، بل يقصد تقبيل صاحب الجدار، يقول:

أمرّ على الديار ديار ليلى أُقبّل ذا الجدار وذا الجدارا

فما حبّ الديار شغفن قلبي ولكن حبّ من سكن الديارا

4- إقامة الاحتفالات في مواليدهم؛ وإلقاء الخطب والقصائد في مدحهم، وذكر جهودهم ودرجاتهم في الكتاب والسنّة، شريطة أن لا تقترن تلك الاحتفالات بالمنهيّات والمحرّمات.

ومن دعا إلى الاحتفال بمولد النبيّ في أيّ قرن من القرون، فقد انطلق من هذا المبدأ، أي حبّ النبي الذي أمر به القرآن والسنّة بهذا العمل.

هذا هو مؤلف تاريخ الخميس يقول في هذا الصدد: «لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الشريف، ويظهر عليهم من كراماته كلّ فضل عظيم»(2)8.

وقال أبو شامة المقدسي في كتابه: «ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل في اليوم الموافق ليوم مولده صلى الله عليه و آله من الصدقات والمعروف بإظهار الزينة والسرور، فانّ في ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء شعاراً لمحبّته»(3)9.

أنا لا أوافق الشيخ المقدسي في تسميته للاحتفال بالبدعة إلّاأن يريد البدعة بالمعنى اللغوي، كما أنّ الاحتجاج على حسن الاحتفالِ بالأعمال الجانبيّة من صدقات ومعروف وإظهار الزينة ...، فانّ هذه الأُمور الجانبيّة لا تسوغ الاحتفال، ولا تضفي عليه صبغة شرعية ما لم يكن هناك دليل في الكتاب والسنّة، وقد عرفت وجوده.


1- الديار بكري، تاريخ الخميس 1: 323.
2- الديار بكري، تاريخ الخميس 1: 323.
3- الحلبي، السيرة 1: 83- 84.

ص: 18

ص: 19

وقال القسطلاني: «ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه السلام، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياله بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عظيم .. فرحم اللَّه امرئاً اتّخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً، ليكون أشدّ علّة على من في قلبه مرض وأعيا داء»(1)10.

إذا عرفت ما ذكرناه فلا نظنّ أن يشكّ أحد في جواز الاحتفال بمولد النبي الأكرم، احتفالًا دينياً فيه رضا اللَّه ورسوله، ولا تصحّ تسميته بدعة، إذ البدعة هي التي ليس لها أصل في الكتاب والسنّة، وليس المراد من الأصل؛ الدليل الخاص، بل يكفي الدليل العام في ذلك.

ويرشدك إلى أنّ هذه الاحتفالات تجسيد لتكريم النبي، وجدانك الحرّ، فانّه يقضي بلا مرية على أنّها إعلاء لمقام النبي وإشادة بكرامته وعظمته، يتلقاها كلّ من شاهدها عن كثب، على أنّ المحتفلين يعزّرون نبيّهم ويكرمونه ويرفعون مقامه اقتداء بقوله سبحانه: «وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ» (الانشراح/ 4).

السنّة النبويّة وكرامة يوم مولده

1- أخرج مسلم في صحيحه عن أبي قتادة انّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: «ذاك يوم ولدت فيه، وفيه أُنزل عليّ»(2)11.


1- المواهب اللدنية 1: 148.
2- مسلم 2: 819.

ص: 20

يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي- عند الكلام في استحباب صيام الأيام التي تتجدّد فيها نعم اللَّه على عباده- ما هذا لفظه: «إنّ من أعظم نعم اللَّه على هذه الأُمّة إظهار محمد صلى الله عليه و آله وبعثه وإرساله إليهم، كما قال اللَّه تعالى: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ» فصيام يوم تجدّدت فيه هذه النعمة من اللَّه سبحانه على عباده المؤمنين حسن جميل، وهو من باب مقابلة النعم في أوقات تجدّدها بالشكر»(1)12.

2- روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضى الله عنه قال: قدم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألوا عن ذلك؟

فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر اللَّه فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، ونحن نصومه تعظيماً له، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: «نحن أولى بموسى منكم» فأمر بصومه (2)13.

وقد استدلّ ابن حجر العسقلاني بهذا الحديث على مشروعيّة الاحتفال بالمولد النبوي على ما نقله الحافظ السيوطي، فقال: «فيستفاد فعل الشكر للَّه على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة، أو دفع نقمة ويعاد ذلك، نظر ذلك اليوم من كلّ سنة. والشكر للَّه يحصل بأنواع العبادة، كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبيّ الرحمة في ذلك اليوم»(3)14.

3- وللسيوطي أيضاً كلام آخر نأتي بنصّه، يقول: «وقد ظهر لي


1- ابن رجب الحنبلي، لطائف المعارف: 98.
2- مسلم، الصحيح: 1130- وأخرجه البخاري 7: 215.
3- السيوطي، الحاوي للفتاوي 1: 196.

ص: 21

تخريجه على أصل آخر، وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس انّ النبيّ صلى الله عليه و آله عقّ عن نفسه بعد النبوة مع أنّه قد ورد أنّ جدّه عبد المطلب عقّ عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرّة ثانية، فيحمل ذلك على أنّ الذي فعله النبي صلى الله عليه و آله إظهار للشكر على إيجاد اللَّه إيّاه رحمة للعالمين وتشريع لأُمّته كما كان يصلّي على نفسه، لذلك فيستحبّ لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده بالاجتماع، وإطعام الطعام، ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرّات»(1)15.

4- أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب انّ رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيداً؟ فقال: أي آية؟ قال: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» (المائدة/ 3).

فقال عمر: إنّي لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله قائم بعرفة يوم الجمعة(2)16.

وأخرج الترمذي عن ابن عباس نحوه وقال: فيه نزلت في يوم عيد من يوم جمعة ويوم عرفة، وقال الترمذي: وهو صحيح (3)17.

«وفي هذا الأثر موافقة سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه على اتخاذ اليوم الذي حدثت فيه نعمة عظيمة عيداً لأنّ الزمان ظرف للحدث العظيم، فعند عود اليوم الذي وقعت فيه الحادثة كان موسماً لشكر تلك


1- السيوطي، الحاوي للفتاوي 1: 196.
2- . البخاري 8: 270- وكما أخرجه الترمذي في 5: 250 وفي الروايات المتضافرة انّها نزلت في الثامن عشر من ذي الحجة في حجّة الوداع.
3- . البخاري 8: 270- وكما أخرجه الترمذي في 5: 250 وفي الروايات المتضافرة انّها نزلت في الثامن عشر من ذي الحجة في حجّة الوداع.

ص: 22

النعمة، وفرصة لإظهار الفرح والسرور»(1)18.

نرى أنّ المسيح عندما دعا ربّه أن ينزل مائدة عليه وعلى حواريه قال: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (المائدة/ 114). فقد اتّخذ يوم نزول النعمة المادية التي تشبع البطون عيداً، والرسول الأكرم نعمة عظيمة منّ بها اللَّه على المسلمين بميلاده، فلم لا نتّخذه يوم فرح وسرور؟

الإستدلال بالإجماع

ذكروا أنّ أوّل من أقام المولد هو الملك المظفر صاحب اربل، وقد توفي عام 630 ه، وربما يقال أوّل من أحدثه بالقاهرة الخلفاء الفاطميون، أوّلهم المعجز لدين اللَّه، توجه من المغرب إلى مصر في شوال 361 ه، وقيل في ذلك غيره، وعلى أيّ تقدير فقد احتفل المسلمون حقباً وأعواماً من دون أن يعترض عليهم أحد، وعلى أيّ حال فقد تحقّق الإجماع على جوازه وتسويغه واستحبابه قبل أن يولد باذر هذه الشكوك، فلماذا لم يكن هذا الإجماع حجّة؟ مع أنّ اتّفاق الأُمّة بنفسه أحد الأدلّة، وكانت السيرة على تبجيل مولد النبيّ إلى أن جاء ابن تيمية، والعزّ بن عبد السلام (2)19، والشاطبي فناقشوا فيه ووصفوه بالبدعة،


1- عيسى الحميري، بلوغ المأمول: 29.
2- هو عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي (577- 660 ه) فقيه شافعي، له من الكتب «التفسيرالكبير» و «مسائل الطريقة» وغيرها (أعلام الزرگلي 4: 21 ط دار الملايين، بيروت.

ص: 23

مع أنّ الإجماع انعقد قبل هؤلاء بقرنين أو قرون، أو ليس انعقاد الإجماع في عصر من العصور حجّة بنفسه؟

أوهام وتشكيكات

إنّ للقائلين بالمنع تشكيكات وشبه كلّها سراب، نذكرها بنصوصها:

أ- الاحتفال نوع من العبادة

قال محمد حامد الفقي: «والمواليد والذكريات التي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم»(1)20.

يلاحظ عليه: أنّ العنصر المقوّم لصدق العبادة على العمل هو الاعتقاد بإلوهية المعظّم له أو ربوبيّته، أو كونه مالك لمصير المعظِّم المحتفل، وأنّ بيده عاجله وآجله، ومنافعه ومضارّه ولا أقل، بيده مفاتيح المغفرة والشفاعة.

وأمّا إذا خلا التعظيم عن هذه العناصر، واحتفل بذكرى رجل ضحّى بنفسه ونفيسه في طريق هداية المحتفلين، فلا يعدّ ذلك عبادة له، وإن أُقيمت له عشرات الاحتفالات، وأُلقيت فيها القصائد والخطب.

ومن المعلوم أنّ المحتفلين المسلمين يعتقدون أنّ النبيّ الأكرم عبد من عباد اللَّه الصالحين، وفي الوقت نفسه هو أفضل الخليقة، ونعمة من اللَّه إليهم، فلأجل تكريمه يقيمون الاحتفال أداءً لشكر النعمة.


1- محمد حامد الفقي في تعليقه على فتح المجيد: 154.

ص: 24

ب- لم يحتفل السلف بمولد النبي

قال ابن تيمية: إنّ هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف- رضي اللَّه عنهم- أحقّ به منّا، فانّهم كانوا أشدّ محبّة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتعظيماً له منّا، وهم على الخير أحرص (1)21.

يلاحظ عليه: بما تعرّفت عليه في الفصل الرابع من أنّ المقياس في السنّة والبدعة هو الكتاب والسنّة وإجماع المسلمين أو السيرة العملية المتّصلة بعصر النبيّ، وأمّا غير ذلك فليس له وزن ولا قيمة ما لم يعتمد على هذه الأُصول الأربعة، ولم يكن السلف أنبياءً ولا رسلًا، وليس الخلف بأقلّ منهم، بل الجميع أمام الكتاب وأمام السنّة سواسية، فلو كان هناك دليل من الكتاب والسنّة على جواز الاحتفال؛ فترك السلف لا يكون مانعاً، على أنّ ترك السلف لم يكن مقارناً بتحريم الاحتفال أو كراهيّته فغاية ما هناك أنّهم لم يفعلوا، وقد أمر اللَّه بما في هذه الآية: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (الحشر/ 7) ولم يقل في حقّ النبي «وما تركه فانتهوا عنه» فكيف الحال في حقّ السلف؟!

ج- إنّها مضاهاة للنصارى في ميلاد المسيح

يقول ابن تيمية: وكذلك ما يحدثه بعض الناس إمّا مضاهاة للنصارى في ميلاد المسيح عليه السلام، وإمّا محبّة للنبي وتعظيماً له واللَّه قد يثيبهم على هذه المحبّة والاجتهاد لا على البدع (2)22.


1- اقتضاء الصراط المستقيم: 293- 294.
2- ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم: 293.

ص: 25

يلاحظ عليه: أنّ ابن تيمية ليس على يقين بأنّ المسلمين يقيمون الاحتفال مضاهاةً للنصارى، أضف إلى ذلك أنّ الأساس الذي يجب أن يبنى عليه عمل المسلم هو انطباق العمل على الكتاب والسنّة، فلا تكون المضاهاة مانعة عن اتّباع الكتاب والسنّة، وإن افترضنا انّ أوّل من احتفل، احتفل مضاهاةً إلّاأنّ المحتفلين في هذه القرون براء من هذه التهمة.

تخصيص المولد بيومٍ للاحتفال به بدعة

إنّ عموم الدليل يقتضي أن تكون جميع الأيام بالنسبة للاحتفال سواسية، فتخصيص يوم واحد في جميع البلاد بالاحتفال بدعة، وإن لم يكن أصل العمل بدعة(1)23.

هذا هو الدليل الهام للقائلين بالمنع، ولكن الجواب عنه واضح، وذلك لأنّ جميع الأيام بالنسبة إلى الاحتفال وإن كانت سواسية إلّاأنّ تخصيص يوم واحد للاحتفال به، لأجل خصوصيات في ذلك اليوم، وليست في غيره إلّاما شذّ، وهو أنّ ذلك اليوم تشرّف بولادته، فهو من أفضل الأيام، كما أنّ البقعة التي ضمّت جسده الشريف هي من أفضل البقاع، ومن ثمّ خصّ النبيّ الأكرم يوم الاثنين بفضيلة الصوم، وبيّن أنّ سبب التخصيص هو أنّه صلى الله عليه و آله ولد فيه، فصار كلّ ذلك سبباً لاختيار هذا اليوم دون سائر الأيام، نعم في وسعهم الاحتفال في غير هذا اليوم أيضاً، بل كلّ يوم أرادوا تكريم النبي والاحتفال به.


1- صالح الفوزان، البدعة: 17.

ص: 26

ثمّ إنّ الذي نلفت نظر القائل بالمنع إليه، هو أنّه لم يقترن ولن يقترن ادّعاء ورود الأمر الشخصي على هذا التخصيص، وانّما الكلّ يتّفق على جواز الاحتفال في جميع الأيام، غير أنّ تخصيص ذلك اليوم هو لأجل خصوصية كامنة فيه.

نعم من احتفل في مولد النبي وادّعى ورود الشرع به، أو حثّه على هذا التخصيص فهو مبتدع، ولا أظن على أديم الأرض رجلًا يدّعي ذلك.

وبعبارة موجزة؛ فانّ كون الاحتفال بدعة رهن أمرين؛ وكلاهما منتفيان:

1- عدم الدليل العام على الاحتفال.

2- ادّعاء ورود الشرع بذلك اليوم الخاص وحثّه عليه.

فعندئذٍ فلا معنى لادّعاء البدعة.

ه- الاحتفالات تشتمل على أُمور محرّمة

إنّ هذه الاحتفالات مشتملة على أُمور محرّمة في الغالب، كاختلاط النساء بالرجال، وقراءة المدائح مع الموسيقى والغناء(1)24.

يلاحظ عليه: أنّ هذا النوع من الاستدلال ينمّ عن قصور باع المستدل، وهذا يدلّ على أنّه قد أعوزه الدليل، فأخذ يتمسّك بالطحلب شأن الغريق المتمسّك به.

فإنّ البحث في نفس مشروعية العمل بحد ذاتها، وأمّا الأُمور


1- ابن الحاج، المدخل 2: 2.

ص: 27

الجانبية العارضة عليه فلا تكون مانعاً من الحكم بالجواز، وما ذكره لا يختصّ بالاحتفال، بل كلّ عمل يجب أن يكون بعيداً عن المحرّمات، فعلى المحتفلين أن يلتزموا بذلك، ويجعلوا مجالسهم مهبطاً للنور.

وفي الختام نركز على أمر وهو، أنّ الاستدلال على الجواز أو المنع بالأُمور الجانبية خروج عن الاستدلال الفقهي، فانّ الحكم بالجواز والمنع ذاتاً يتوقّف على كون الشي ء بما هو هو جائزاً أو ممنوعاً، وأمّا الاستدلال على أحدهما بالأُمور الطارئة فليس استدلالًا صحيحاً.

وهناك نكتة أُخرى، وهي أنّ الاستدلال على الجواز بما جرت عليه سيرة العقلاء من إقامة الاحتفالات على عظمائهم قياس مع الفارق، لأنّ الاحتفالات الرائجة بين العقلاء من الأُمور العادية، والأصل فيها هو الحلّية، وأمّا الاحتفال بمولد النبي فإنّما هو احتفال ديني، وعمل شرعي، فلا يقاس بتلك الاحتفالات، بل لابدّ من طلب دليل شرعي على جوازه، وبذلك تقدر على القضاء بين أدلّة الطرفين.

نعم لا يمكن أن ننكر أنّ ما يقيمه العقلاء من احتفال يؤثر في نفوسنا ويحفزنا للإقبال على الاحتفال بمولد النبي، وفي هذا الصدد يقول العلّامة الأميني:

«لعلّ تجديد الذكرى بالمواليد والوفيات، والجري على مراسم النهضات الدينية، أو الشعبية العامة، والحوادث العالمية الاجتماعية، وما يقع من الطوارق المهمّة في الطوائف والأحياء، بعدِّ سنيها، واتّخاذ رأس كلّ سنة بتلكم المناسبات أعياداً وأفراحاً، أو مآتماً وأحزاناً، وإقامة الحفل السارّ، أو التأبين، من الشعائر المطردة، والعادات الجارية منذ

ص: 28

القدم، ودعمتها الطبيعة البشرية، وأسّستها الفكرة الصالحة لدى الأُمم الغابرة، عند كلّ أُمة ونحلة، قبل الجاهلية وبعدها، وهلمّ جرّاً حتى اليوم.

هذه مراسم اليهود، والنصارى، والعرب، في أمسها ويومها، وفي الإسلام وقبله، سجّلها التاريخ في صفحاته.

وكأنَّ هذه السُنّة نزعة إنسانية، تنبعث من عوامل الحبّ والعاطفة، وتسقى من منابع الحياة، وتتفرع على أُصول التبجيل والتجليل، والتقدير والإعجاب، لرجال الدين والدنيا، وأفذاذ الملأ، وعُظماء الأُمة إحياءً لذكراهم، وتخليداً لأسمائهم، وفيها فوائد تاريخية اجتماعية، ودروس أخلاقية ضافية راقية، لمستقبل الأجيال، وعظات وعبر، ودستور عملي ناجح للناشئة الجديدة، وتجارب واختبارات تولد حنكة الشعب، ولا تختص بجيل دون جيل، ولا بفئة دون فئة.

وانّما الأيام تقتبس نوراً وازدهاراً، وتتوسّم بالكرامة والعظمة، وتكتسب سعداً ونحساً، وتتخد صيغة مما وقع فيها من الحوادث الهامّة وقوارع الدهر ونوازله ...»(1)25


1- الأميني، سيرتنا وسنّتنا: 38- 39 ط الثانية.

ص: 29

المسألة الثانية: شدّ الرحال لزيارة قبر النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله

اشارة

اتّفق المسلمون على جواز زيارة القبور، وخاصّة زيارة قبور الأنبياء والصالحين، إلّاما حكي عن ابن سيرين والنخعي والشعبي، والنسبة إليهم غير ثابتة، وقد تضافرت الروايات على هذا الجواز وإنّ النبيّ زار قبر أُمّه فبكى وأبكى مَنْ حوله وقال: «استأذنتُ ربّي في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فانّها تذكّركم الموت»(1)26.

وقال: «كنت نهيتُكم عن زيارة القبور فزوروها ... فانّها وتذكّر الآخرة»(2)27.


1- مسلم، الصحيح 3: 65 باب استئذان النبي ربه في زيارة قبر أمّه.
2- الترمذي، الصحيح، باب الجنائز 4: 274 المطبوع مع شرح ابن العربي المالكي. وقال بعد نقل هذا الحديث عن بريدة «حديث بريدة صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم، لا يرون بزيارة القبور بأساً، وهو قول ابن المبارك والشافعي وأحمد واسحاق».

ص: 30

ونقتصر من الروايات الكثيرة على هذا المقدار(1)28.

وقد روى أصحاب السنن كيفية زيارة النبي الأكرم لقبور البقيع، فلاحظ المصدر(2)29.

وأمّا زيارة قبر النبي الأكرم فليس هناك أيّ خلاف بين المسلمين في استحباب زيارته، وهذا محمد بن عبد الوهاب يقول: تَسنُّ زيارة النبي صلى الله عليه و آله إلّاأنّه لا يشدّ الرحال إلّالزيارة المسجد والصلاة فيه (3)30.

نعم ينسب إلى ابن تيمية التشكيك في مندوبية زيارة النبي الأكرم، ولكن كلامه في كتاب الرد على الاخنائي على خلاف ذلك (4)31.

حتى أنّ المقدسي (5)32 صرّح بأنّه كان معتقداً بزيارة النبي الأكرم وقال:

قال رحمه الله (يعني ابن تيمية) في بعض مناسكه: «باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله»:

إذا أشرف على مدينة النبي صلى الله عليه و آله قبل الحج أو بعده فليقل ما تقدّم، فإذا دخل استحبّ له أن يغتسل،- نصّ عليه الإمام أحمد-، فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنى وقال: بسم اللَّه والصلاة على رسول اللَّه، اللّهمّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، ثمّ يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلّي بها ويدعو بما شاء، ثمّ يأتي قبر النبي صلى الله عليه و آله فيستقبل جدار


1- تحسن مراجعة المصادر الآتية: ابن ماجة، السنن 1: 114 ط الهندي، باب ما جاء في زيارة القبور- أبو داود، الصحيح 2: 195 كتاب الجنائز، باب زيارة القبور- مسلم، الصحيح 4: 73 كتاب الجنائز، باب زيارة القبور، إلى غيرها من المصادر.
2- النسائي، السنن 4: 76- 77 مضافاً إلى المصادر المتقدمة.
3- الهدية السنيّة، الرسالة الثانية.
4- لاحظ ابن تيمية، الرد على الاخنائي: 13.
5- أبو عبد اللَّه محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي.

ص: 31

القبر ولا يمسّه ولا يقبِّله ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه، ليكون قائماً وجاه النبي صلى الله عليه و آله ويقف متباعداً، كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع وسكون، منكِّسَ الرأس، غاض الطرف، متحضراً بقلبه جلالة موقفه، ثمّ يقول: السلام عليك يا رسول اللَّه ورحمة اللَّه وبركاته، السلام عليك يا نبيّ اللَّه وخيرته من خلقه، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين وقائد الغرّ المحجّلين، أشهد أن لا إله إلّااللَّه، وأشهد أنّك رسول اللَّه، أشهد أنّك قد بلغت رسالات ربّك، ونصحت لأُمّتك، ودعوت إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت اللَّه حتى أتاك اليقين، فجزاك اللَّه أفضل ما جزى نبيّاً ورسولًا عن أُمّته.

اللّهمّ آته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً(1)33.

ولذلك لا نطيل الكلام في إثبات استحباب زيارة قبر النبيّ الأكرم، ولعلنا نخصص بحثاً لبيان حكم مطلق الزيارة وبالأخصّ زيارة قبور الأنبياء والأولياء في المستقبل، إنّما كلامنا هنا هو التركيز على حكم شدّ الرحال لزيارة قبر النبي الأكرم، فقد رآه ابن تيمية ومن لفَّ لفَّه أمراً حراماً، مستدِلًا بحديث أبي هريرة، أنّه صلى الله عليه و آله قال:

«لا تشدّ الرحال إلّاإلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى».

وروي هذا الحديث بصورة أُخرى وهي:

«إنّما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة ومسجدي ومسجد


1- الصارم المنكي في الرد على السبكي، لأبي عبد اللَّه محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي: 7، ط 1 القاهرة، المطبعة الخيرية.

ص: 32

إيليا».

وروي أيضاً بصورة ثالثة وهي:

«تشدّ الرحال إلى ثلاثة مساجد ...»(1)34.

أقول: إنّ رفع القناع عن وجه الحقيقة يتوقّف على دراسة أمرين:

الأوّل: ما يدل على استحباب السفر لزيارة قبره صلى الله عليه و آله.

الثاني: دراسة وتحليل الحديث الذي تمسك به ابن تيمية على تحريم السفر.

وإليك الكلام حولهما واحداً تلو الآخر:

ما يدلّ على استحباب السفر

يمكن الاستدلال على استحباب السفر بوجوه كثيرة لكنّنا نقتصر على وجهين:

الأوّل: إطباق السلف والخلف على جواز السفر للزيارة، وهذا لا يمكن لأحد إنكاره، وقد استمرّت السيرة قروناً عديدة، وممّن أوضح تلك السيرة، الفقيه السبكي بقوله:

«إنّ الناس لم يزالوا في كلّ عام إذا قضُوا الحج يتوجّهون إلى زيارته صلى الله عليه و آله، ومنهم من يفعل ذلك قبل الحج، هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا، وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة، كما ذكرناه في الباب الثالث، وذلك أمر لا يرتاب فيه، وكلّهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه، وإن لم


1- مسلم، الصحيح 4: 126 كتاب الحج، باب لا تشدّ الرحال- أبو داود، السنن 1: 469 كتاب الحج- النسائي، السنن 2: 37- 38 المطبوع مع شرح السيوطي.

ص: 33

يكن طريقهم، ويقطعون فيه مسافة بعيدة وينفقون فيه الأموال، ويبذلون فيه المهج، معتقدين أنّ ذلك قربة وطاعة، وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرض ومغاربها على ممرّ السنين. وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم، يستحيل أن يكون خطأ، وكلّهم يفعلون ذلك على وجه التقرّب به إلى اللَّه عزّوجلّ، ومن تأخر من المسلمين فانّما يتأخّر بعجز أو تعويق المقادير، مع تأسّفه عليه ووُدِّه لو تيسّر له، ومن ادّعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمعون على خطأ فهو المخطئ»(1)35.

إنّ جريان السيرة على السفر في القرون الماضية بلغ في الوضوح ما لم يستطيع أحد أن ينكره، حتى أنّ الحنبلي المقدسي الذي أفرد كتاباً في الردّ على السبكي لم يتعرّض للسيرة وما تحدّث عنها بكلمة، مع أنّه كان بصدد نقد الكتاب. ولكي تتضح حال السيرة نذكر نصوصاً عن بعض العلماء:

1- قال أبو الحسن الماوردي (ت/ 450): «فإذا عاد (ولي الحاج) سار به على طريق المدينة، لزيارة قبر رسول اللَّه، ليجمع لهم بين حجّ بيت اللَّه عزّوجلّ وزيارة قبر رسول اللَّه، رعاية لحرمته وقياماً بحقوق طاعته، وذلك وإن لم يكن من فروض الحج فهو من مندوبات الشرع المستحبّة وعبادات الحجيج المستحبّة»(2)36.

2- قال ابن الحاج محمد بن محمد العبدري القيرواني المالكي (ت/ 737): «وأمّا عظيم جناب الأنبياء والرسل، صلوات اللَّه وسلامه


1- الامام تقي الدين السبكي، شفاء السقام في زيارة خير الأنام: 100.
2- أبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية: 105.

ص: 34

عليهم أجمعين، فيأتي إليهم الزائر، ويتعيّن عليه قصدهم من الأماكن البعيدة، فإذا جاء إليهم وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره لأنهم لا يبلون ولا يتغيّرون ... إلى آخر ما ذكره»(1)37.

3- قال شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي (ت/ 925) في ما يستحبّ لمن حج: «ثمّ يزور قبر النبي ويسلّم عليه وعلى صاحبيه بالمدينة المشرفة»(2)38.

إلى غير ذلك من النصوص الواردة حول استحباب السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله الحاكية عن تطابق الأُمة على السفر.

4- قال الشيخ علاء الدين الحصكفي الحنفي في آخر كتاب الحج: «وزيارة قبره صلى الله عليه و آله مندوبة بل قيل واجبة لمن له سعة، ويبدأ بالحج لو كان فرضاً، ويُخيَّر لو كان نفلًا، ما لم يمرّ به فيبدأ بزيارته لا محالة، ولينوي معه زيارة مسجده»(3)39.

5- وقد نقل أنّه لما صالح عمر بن الخطاب أهل بيت المقدس جاءه كعب الأحبار فأسلم ففرح به فقال عمر له: هل لك أن تسير معي إلى المدينة. وتزور قبره وتتمتّع بزيارته؟ قال: نعم (4)40.

6- وقد تضافر النقل على أنّ بلالًا بعد ما نزل الشام وأقام بها، شدّ الرحال لزيارة قبر النبي الأكرم، قال جمال الدين المزي: أنّه لم يؤذن


1- ابن الحاج، المدخل 1: 257 فصل زيارة القبور.
2- اسنى المطالب في شرح روض الطالب 1: 501.
3- الحنفي المفتي بدمشق (ت/ 1088)، الدر المختار في شرح تنوير الأبصار، آخر كتاب الحج.
4- الزرقاني المالكي المصري، شرح المواهب 8: 299.

ص: 35

لأحد بعد النبي إلّامرّة واحدة في قدمة قدمها لزيارة النبي صلى الله عليه و آله وطلب من الصحابة ذلك، فأذن ولم يتمّ الأذان (1)41.

***

الثاني: انّ مقدمة المستحبّ مستحبّة

إذا كانت زيارة النبي الأكرم أمراً مندوباً ولم تخصّص الزيارة لمن كان مقيماً في المدينة ونزيلًا فيها، فلم لا تكون مقدّمتها مستحبّة، إذ من القواعد: انّ وسيلة القربة قربة، وقد وردت روايات على مشروعية تلك القاعدة.

يقول السبكي في هذا الصدد:

قال صلى الله عليه و آله: ألا أدلّكم على ما يمحو اللَّه به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكن الربا» رواه مسلم (2)42.

والخطى إلى المساجد انما شرفت لكونها وسيلة إلى عبادة.

وقال صلى الله عليه و آله: «إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثمّ خرج إلى المسجد، لا تخرجه إلّاالصلاة، لم يخط خطوة إلّارفعت له بها درجة وحُطّ عنه بها خطيئة»، رواه البخاري ومسلم (3)43.


1- جمال الدين المزي، تهذيب الكمال 4: 286- ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق 5: 365.
2- ورواه الامام مالك، وأحمد، والترمذي، والنسائي.
3- ورواه أبو داود البيهقي، وفيه زيادات، وكذلك الطبراني، والحاكم.

ص: 36

وقال صلى الله عليه و آله: «أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى» رواه البخاري ومسلم (1)44.

وقال رجل: ما يسرّني انّ منزلي إلى جنب المسجد، انّي أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «قد جمع اللَّه لك ذلك كلّه» رواه مسلم.

وقال جابر: كانت ديارنا نائية عن المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقرب من المسجد، فنهانا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: «إنّ لكم بكلّ خطوة درجة» رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه و آله: «من تطهّر في بيته، ثمّ مشى إلى بيت من بيوت اللَّه، ليقضي فريضة من فرائض اللَّه كانت خطوتاه إحداهما تحطّ خطيئة والأُخرى ترفع درجة» رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه و آله: «من غدا إلى المسجد أو راح أعدّ اللَّه له نزلًا كلّما غدا أو راح» رواه البخاري ومسلم والامام أحمد(2)45.

هذا كلّه ما ذكره السبكي في مقدّمة المستحب، وقال بالملازمة بين استحباب ذي المقدمة ومقدّمته.

ولو قلنا بعدم الملازمة بين الاستحبابين، ولكن لا محيص عن عدم التضاد بين الحكمين، إذ كيف يمكن أن تكون الزيارة مستحبّة للنائي ويكون السفر حراماً، فلا محيص عن كونه مباحاً لا حراماً.


1- ورواه ابن ماجة.
2- السبكي، شفاء السقام، باب في كون السفر إليه قربة: 102، ولكلامه صلة فمن أراد فليراجع إليه فانّه مُمْتنع.

ص: 37

هذا كلّه حول دليل القائل بجواز شدّ الرحال.

دراسة دليل القائل بالتحريم

ليس للقائل بالتحريم إلّادليل واحد وهو ما عرفت من رواية أبي هريرة، وقد نقلت بصور مختلفة قد عرفتها، والمناسب لما يرومه المستدلّ الصورة التالية.

«لا تشدّ الرحال إلّاإلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى» فتحليل الحديث يتوقّف على تعيين المستثنى منه، وهو لا يخلو من صورتين:

1- لا تشدّ إلى مسجد من المساجد إلّاإلى ثلاثة مساجد ....

2- لا تشدّ إلى مكان من الأمكنة إلّاإلى ثلاثة مساجد ....

فلو كانت الأُولى كما هو الظاهر، كان معنى الحديث عدم شدّ الرحال إلى أيّ مسجد من المساجد سوى المساجد الثلاثة، ولا يعني عدم شدّ الرحال إلى أيّ مكان من الأمكنة إذا لم يكن المقصود مسجداً.

فالحديث يكون غير متعرّض لشدّ الرحال لزيارة الأنبياء والأئمة الطاهرين والصالحين، لأنّ موضوع الحديث إثباتاً ونفياً هو المساجد، وأمّا غير ذلك فليس داخلًا فيه، فالاستدلال به على تحريم شدّ الرحال الى غير المساجد، باطل.

وأمّا الصورة الثانية، فلا يمكن الأخذ بها، إذ يلزم منها كون جميع السفرات محرّمة سواء كان السفر لأجل زيارة المسجد أو غيره من الأمكنة، وهذا لا يلتزم به أحد من الفقهاء.

ص: 38

ثمّ إنّ النهي عن شدّ الرحال إلى أيّ مسجد غير المساجد الثلاثة ليس نهياً تحريمياً، وانّما هو إرشاد إلى عدم الجدوى في سفر كهذا، وذلك لأنّ المساجد الأُخرى لا تختلف من حيث الفضيلة، فالمساجد الجامعة كلّها متساوية في الفضيلة، فمن العبث ترك الصلاة في جامع هذا البلد والسفر إلى جامع بلد آخر مع أنّهما متماثلان.

وفي هذا الصدد يقول الغزالي: «القسم الثاني، وهو أن يسافر لأجل العبادة إمّا لحجّ أو جهاد .. ويدخل في جملته: زيارة قبور الأنبياء عليهم السلام وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء، وكلّ من يتبرّك بمشاهدته في حياته يتبرّك بزيارته بعد وفاته، ويجوز شدّ الرحال لهذا الغرض، ولا يمنع من هذا قوله صلى الله عليه و آله: «لا تشدّ الرحال إلّاإلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى». لأنّ ذلك في المساجد، فانّها متماثلة (في الفضيلة) بعد هذه المساجد، وإلّا فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء والأولياء والعلماء في أصل الفضل، وإن كان التفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند اللَّه»(1)46.

يقول الدكتور عبد الملك السعدي: «انّ النهي عن شدّ الرحال إلى المساجد الأُخرى لأجل أنّ فيه إتعاب النفس دون جدوى أو زيادة ثواب، لأنّ في الثواب سواء بخلاف الثلاثة، لأنّ العبادة في مسجد الحرام بمائة ألف، وفي المسجد النبوي بألف، وفي مسجد الأقصى


1- الغزالي، احياء علوم الدين 2: 247، كتاب آداب السفر، ط دار المعرفة بيروت.

ص: 39

بخمسمائة، فزيادة الثواب تحبب السفر إليها، وهي غير موجودة في بقية المساجد»(1)47.

والدليل على أنّ السفر لغير هذه المساجد ليس أمراً محرّماً ما رواه أصحاب الصحاح والسنن: «كان رسول اللَّه يأتي مسجد قباء راكباً وماشياً فيصلّي فيه ركعتين»(2)48.

ولعلّ استمرار النبي على هذا العمل كان مقترناً لمصلحة تدفعه إلى السفر إلى قباء والصلاة فيه، مع كون الصلاة فيه أقلّ ثواباً من الثواب في مسجده.

دراسة النهي عن شدّ الرحال

إنّ لابن تيمية في المقام كلمة تنطوي على مغالطة واضحة، إذ مع أنّه قدّر المستثنى منه في الحديث لفظ المساجد إلّاأنّه استدلّ على منع شدّ الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين بمدلوله، أي بالقياس الأولوي، فقال في الفتاوي:

«فإذا كان السفر إلى بيوت اللَّه غير الثلاثة ليس بمشروع باتّفاق الأئمة الأربعة بل قد نهى عنه الرسول صلى الله عليه و آله فكيف بالسفر إلى بيوت المخلوقين الذين تتخذ قبورهم مساجد، وأوثاناً وأعياداً، ويشرك بها، وتدعى من دون اللَّه، حتى أنّ كثيراً من معظميها يُفضِّل الحجّ إليها على


1- الدكتور عبد الملك السعدي، البدعة: 60.
2- مسلم، الصحيح 3: 184- البخاري، الصحيح 2: 76- النسائي، السنن المطبوع مع شرح السيوطي 2: 37.

ص: 40

الحج إلى بيت اللَّه»(1)49.

ولو صحّ ذلك النقل من ابن تيمية ففي كلامه أوهام شتّى وإليك بيانها:

1- قال: «إذا كان السفر إلى بيوت اللَّه غير الثلاثة ليس بمشروع».

يلاحظ عليه: من أين وقف على أنّ السفر إلى غير المساجد الثلاثة محرّم، وقد عرفت أنّ النهي ليس تحريمياً مولوياً وإنّما هو إرشاد إلى عدم الجدوى، ولأجل ذلك لو ترتبت على السفر مصلحة لجاز، كما عرفت من سفر النبي إلى مسجد قباء مراراً.

2- نسب عدم المشروعية إلى الائمة الأربعة، إلّاأنّنا لم نجد نصاً منهم على التحريم، ووجود الحديث في الصحاح لا يدلّ على أنّهم فسّروا الحديث بنفس ما فسّر به ابن تيمية، ولا يخفى على الأئمة ظهور الحديث في الدلالة على عدم الجدوى، لا كون العمل محرماً.

3- إنّ عدم جواز السفر إلى غير المساجد الثلاثة لا يكون دليلًا على عدم جوازه إلى «بيوت أذن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه»(2)50، إذ لا ملازمة بينهما، لأنّه لا يترتّب على السفر في غير مورد الثلاثة أيّة فائدة سوى تحمّل عناء السفر، وقد عرفت أنّ فضيلة أي جامع في بلد هي نفسها في البلد الآخر، وليس اكتساب الثواب متوقفاً على السفر، وهذا بخلاف المقام، فانّ درك فضيلة قبر النبي يتوقّف على السفر، ولا يدرك بدونه.


1- ابن تيمية، الفتاوي كما في كتاب البدعة للدكتور عبد الملك السعدي.
2- مقتبس من سورة النور: الآية 36.

ص: 41

4- يقول: «انّ المسلمين يتّخذون قبور الأنبياء أوثاناً وأعياداً ويشرك بها» .. كبرت كلمة تخرج من أفواههم، أفمن يشهد كلّ يوم بأنّ محمداً عبده ورسوله، ويكرمه ويعظمه لأنّه سفير التوحيد ومبلغه،- أفهل- يمكن أن يتّخذ قبره وثناً.

5- يقول: «تدعى من دون اللَّه» .. من المعلوم أنّ عبادة الغير حرام، لا مطلق دعوته، فعامّة المسلمين حتى ابن تيمية يقول في صلاته:

«السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته». والمراد من قوله سبحانه:

«وَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» (الجن/ 18): لا تعبدوا مع اللَّه أحداً. قال سبحانه:

«ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ انَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» (غافر/ 60) فسمّى سبحانه دعوته: عبادة. فإذاً الدعوة على قسمين: دعوة عبادية إذا كان معتقداً بألوهية المدعو، بنحو من الأنحاء، ودعوة غير عبادية إذا دعاه على أنّه عبد من عباده الصالحين، يستجاب دعاؤه عند اللَّه. والدعوة بهذا النوع تؤكده التوحيد.

6- نقل: أنّ بعض المسلمين يفضّل السفر إلى تلك الأماكن على الحجّ إلى بيت اللَّه، لكنّها فرية بلا مرية، وليس على وجه البسيطة مسلم واع يعتقد بهذا ويعمل به.

7- لو كان السفر إلى زيارة القبور أمراً محرّماً فلماذا شدّ النبي الرحال لزيارة قبر أُمّه بالأبواء، وهي منطقة بين مكة والمدينة، أَفصار النبي بهذا- والعياذ باللَّه- مشركاً، أو أنّ الرواية التي أطبق المحدّثون على نقلها مكذوبة؟ واللَّه لا هذا ولا ذاك دائماً.

8- إنّ ما ذكره من أسباب المنع تتحقّق للمجاور للقبر بدون شدّ

ص: 42

الرحال، فاللازم منع ارتكاب المحرّمات عند قبره لا منع السفر إليه.

9- إنّ احتمال أنَّ المراد من زيارة القبور هو زيارة جميع القبور بدون تخصيص لزيارة قبر مشخّص، احتمال ساقط، وذلك لأنّ «ال» «الجنسية» إذا دخلت على الجمع أبطلت جمعيّته وصار المراد بالمدخول أي فرد يتحقّق به جنس القبر، ويستوي في ذلك المفرد والجمع.

10- كيف يقال ذلك مع أنّ السيدة عائشة- رضي اللَّه عنها- كانت تزور قبر أخيها عبد الرحمن بخصوصه (1)51، حتى أنّ النبيّ يخصّ بعض القبور بالزيارة، وقد وضع حجرات على قبر أخيه من الرضاعة عثمان بن مظعون، وقال: «لتعرف بها قبر أخي». ومعلوم أنّه لا تترتب على التعرّف فائدة سوى زيارته.


1- ابن قدامى المغني 2: 270.

ص: 43

المسألة الثالثة: القبض بين البدعة والسنّة

اشارة

إنّ قبض اليد اليسرى باليمنى ممّا اشتهر ندبه بين فقهاء أهل السنّة.

فقالت الحنفية: إنّ التكتّف مسنون وليس بواجب، والأفضل للرجل أن يضع باطن كفّه اليمنى على ظاهر كفّه اليسرى تحت سُرّته، وللمرأة أن تضع يديها على صدرها.

وقالت الشافعية: يُسنّ للرجل والمرأة، والأفضل وضع باطن يمناه على ظهر يسراه تحت الصدر وفوق السرّة ممّا يلي الجانب الأيسر.

وقالت الحنابلة: انّه سنّة، والأفضل أن يضع باطن يمناه على ظاهر يسراه، ويجعلها تحت السرّة.

ص: 44

وشذّت عنهم المالكية فقالوا: يُندَب إسدالُ اليدين في الصلاة الفرض، وقالت به جماعة أيضاً قبلهم، منهم: عبد اللَّه بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وابن جريج، والنخعي، والحسن البصري، وابن سيرين، وجماعة من الفقهاء.

والمنقول عن الإمام الأوزاعي التخيير بين القبض والسدل (1)52.

وأمّا الشيعة الإماميّة، فالمشهور أنّه حرام ومبطل، وشذّ منهم من قال بأنّه مكروه، كالحلبي في الكافي (2)53.

ومع أنّ غير المالكية من المذاهب الأربعة قد تصوبوا وتصعدوا في المسألة، لكن ليس لهم دليل مقنع على جوازه في الصلاة، فضلًا عن كونه مندوباً، بل يمكن أن يقال: انّ الدليل على خلافهم، والروايات البيانية عن الفريقين التي تبيّن صلاة الرسول خالية عن القبض، ولا يمكن للنبي الأكرم أن يترك المندوب طيلة حياته أو أكثرها، واليك نموذجين من هذه الروايات: أحدهما من طريق أهل السنّة، والآخر من طريق الشيعة الإمامية، وكلاهما يُبيّنان كيفية صلاة النبي، وليست فيهما أيّة إشارة على القبض فضلًا عن كيفيته.

أ- حديث أبي حميد الساعدي

روى حديث أبي حميد الساعدي غير واحد من المحدّثين،


1- محمد جواد مغنية، الفقه على المذاهب الخمسة: 110- ولاحظ رسالة مختصرة في السدل للدكتور عبد الحميد: 5.
2- النجفي، جواهر الكلام 11: 15- 16.

ص: 45

ونحن نذكرْ بنصّ البيهقي، قال: أخبرناه أبو علي عبد اللَّه الحافظ:

فقال أبو حميد الساعدي: أنا أعملكم بصلاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، قالوا:

لِمَ، ما كنت أكثرنا له تبعاً، ولا أقدمنا له صحبة؟! قال: بلى، قالوا: فأعرض علينا، فقال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما مَنْكَبيه، ثمّ يكبّر حتى يقرّ كل عضو منه في موضعه معتدلًا، ثمّ يقرأ، ثمّ يكبّر ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثمّ يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثمّ يعتدل ولا ينصب رأسه ولا يقنع، ثمّ يرفع رأسه، فيقول:

سمع اللَّه لمن حمده، ثمّ يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، حتى يعود كلّ عظم منه إلى موضعه معتدلًا، ثمّ يقول: اللَّه أكبر، ثمّ يهوي إلى الأرض فيجافي يديه عن جنبيه، ثمّ يرفع رأسه فيثني رجله اليسرى فيقعد عليها ويفتح أصابع رجليه إذا سجد، ثمّ يعود، ثمّ يرفع فيقول: اللَّه أكبر، ثمّ يثني برجله فيقعد عليها معتدلًا حتى رجع أو يقرّ كلّ عظم موضعه معتدلًا، ثمّ يصنع في الركعة الأُخرى مثل ذلك، ثمّ إذا قام من الركعتين كبّر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما فعل أو كبّر عند افتتاح صلاته، ثمّ يصنع من ذلك في بقيّة صلاته، حتى إذا كان في السجدة التي فيها التسليم أخّر رجله اليسرى وقعد متوركاً على شقّه الأيسر، فقالوا جميعاً: صدق هكذا كان يصلّي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (1)54.

والذي يوضح صحّة الاحتجاج الأُمور التالية:


1- البيهقي، السنن 2: 72-/ 73، 101-/ 102- أبو داود، باب افتتاح الصلاة، الحديث 730- 736- الترمذي 2: 98 باب صفة الصلاة.

ص: 46

1- تصديق أكابر الصحابة(1)55 وبهذا العدد لأبي حميد يدلّ على قوّة الحديث، وترجيحه على غيره من الأدلّة.

2- انّه وصف الفرائض والسنن والمندوبات ولم يذكر القبض، ولم ينكروا عليه، أو يذكروا خلافه، وكانوا حريصين على ذلك، لأنّهم لم يسلّموا له أوّل الأمر انّه أعلمهم بصلاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، بل قالوا جميعاً:

صدقت هكذا كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصلّي، ومن البعيد جداً نسيانهم وهم عشرة، وفي مجال المذاكرة.

3- الأصل في وضع الدين هو الإرسال، لأنّه الطبيعي فدلّ الحديث عليه.

4- لا يقال انّ هذا الحديث عامّ وقد خصّصته أحاديث القبض، لأنّه وصف وعدد جميع الفرائض والسنن والمندوبات وكامل هيئة الصلاة، وهو في معرض التعليم والبيان، والحذف فيه خيانة، وهذا بعيد عنه وعنهم.

5- روى بعض من حضر من الصحابة أحاديث القبض، فلم يعترض، فدلّ على أنّ القبض منسوخ، أو على أقل أحواله بأنّه جائز للاعتماد لمن طول في صلاته، وليس من سنن الصلاة، ولا من مندوباتها، كما هو مذهب الليث بن سعد، والأوزاعي، ومالك (2)56.

هذا هو الحديث الذي قام ببيان كيفية صلاة النبي، وقد روي عن


1- منهم أبو هريرة، وسهل الساعدي، وأبو أسيد الساعدي، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، ومحمد بن مسلمة.
2- الدكتور عبد الحميد، رسالة مختصرة في السدل: 11.

ص: 47

طريق أهل السنّة، وقد عرفت وجه الدلالة، وإليك ما رواه الشيعة الإمامية.

ب- حديث حمّاد بن عيسى

روى حماد بن عيسى عن الإمام الصادق عليه السلام قال، قال: «ما أقبح بالرجل أن يأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة؟»، قال حماد: فأصابني في نفسي الذل، فقلت: جعلت فداك فعلّمني الصلاة، فقام أبو عبد اللَّه مستقبل القبلة منتصباً فأرسل يديه جميعاً على فخذيه، قد ضمّ أصابعه وقرّب بين قدميه حتى كان بينهما ثلاثة أصابع مفرجات، واستقبل بأصابع رجليه جميعاً لم يُحرفهما عن القبلة بخشوع واستكانة، فقال: اللَّه أكبر، ثمّ قرأ الحمد بترتيل، وقل هو اللَّه أحد، ثمّ صبر هنيئة بقدر ما تنفس وهو قائم، ثمّ قال: اللَّه أكبر، وهو قائم، ثمّ ركع وملأ كفّيه من ركبتيه مفرجات، وردّ ركبتيه إلى خلفه حتى استوى ظهره، حتى لو صُبّ عليه قطرة ماء أو دهن لم تزل لاستواء ظهره وتردّد ركبتيه إلى خلفه، ونصب عنقه، وغمض عينيه ثمّ سبّح ثلاثاً بترتيل وقال: سبحان ربّي العظيم وبحمده، ثمّ استوى قائماً، فلما استمكن من القيام قال: سمع اللَّه لمن حمده، ثمّ كبّر وهو قائم، ورفع يديه حيال وجهه، وسجد، ووضع يديه إلى الأرض قبل ركبتيه فقال:

سبحان ربي الأعلى وبحمده ثلاث مرّات، ولم يضع شيئاً من بدنه على شي ء منه، وسجد على ثمانية أعظم: الجبهة، والكفين، وعيني الركبتين، وأنامل إبهامي الرجلين، والأنف، فهذه السبعة فرض، ووضع الأنف

ص: 48

على الأرض سنّة، وهو الإرغام، ثمّ رفع رأسه من السجود فلمّا استوى جالساً قال: اللَّه أكبر، ثمّ قعد على جانبه الأيسر، ووضع ظاهر قدمه اليمنى على باطن قدمه اليسرى، وقال: استغفر اللَّه ربي وأتوب إليه، ثمّ كبّر وهو جالس وسجد الثانية وقال: كما قال في الأُولى ولم يستعن بشي ء من بدنه على شي ء منه في ركوع ولا سجود، وكان مجنّحاً، ولم يضع ذراعيه على الأرض، فصلّى ركعتين على هذا.

ثمّ قال: «يا حمّاد هكذا صلّ، ولا تلتفت، ولا تعبث بيدك وأصابعك، ولا تبزق عن يمينك ولا عن يسارك ولا بين يديك»(1)57.

ترى أنّ الروايتين بصدد بيان كيفية الصلاة المفروضة على الناس، وليست فيهما أيّة إشارة إلى القبض بأقسامه المختلفة، فلو كان سنّة لما تركه الإمام في بيانه، وهو بعمله يجسّد لنا صلاة الرسول، لأنّه أخذها عن أبيه الإمام الباقر، وهو عن أبيه عن آبائه، عن أمير المؤمنين، عن الرسول الأعظم- صلوات اللَّه عليهم أجمعين- فيكون القبض بدعة، لأنّه إدخال شي ء في الشريعة وهو ليس منه.

ثمّ إنّ للقائل بالقبض أدلّة نأتي على دراستها:

إنّ مجموع ما يمكن الاستدلال به على أنّ القبض سنّة في الصلاة لا يعدو عن مرويات ثلاثة:

1- حديث سهل بن سعد. رواه البخاري.

2- حديث وائل بن حجر. رواه مسلم و نقله البيهقي بأسانيد ثلاثة.


1- الحرّ العاملي، الوسائل الجزء 4، الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة، الحديث 1- ولاحظ الباب 17، الحديث 1 و 2.

ص: 49

3- حديث عبد اللَّه بن مسعود. رواه البيهقي في سننه.

وإليك دراسة كلّ حديث:

أ- حديث سهل بن سعد

روى البخاري عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: «كان الناس يُؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة» قال أبو حازم: لا أعلمه إلّايَنمي ذلك إلى النبي صلى الله عليه و آله (1)58.

قال إسماعيل (2)59: يُنمى ذلك ولم يقل يَنمي.

والرواية متكفّلة لبيان كيفية القبض إلّاأنّ الكلام في دلالتها بعد تسليم سندها. لكنها لا تدلّ عليه بوجهين:

أولًا: لو كان النبي الأكرم هو الآمر بالقبض فما معنى قوله: «كان الناس يؤمرون»؟ أوَما كان الصحيح عندئذٍ أن يقول: كان النبي يأمر؟

أوليس هذا دليلًا على أنّ الحكم نجم بعد ارتحال النبي الأكرم، حيث إنّ الخلفاء وأُمراءهم كانوا يأمرون الناس بالقبض بتخيّل أنّه أقرب للخشوع؟ ولأجله عقد البخاري بعده باباً باسم باب الخشوع. قال ابن حجر: حكمه في هذه الهيئة أنّه صفة السائل الذليل، وهو أمنع عن العبث، وأقرب إلى الخشوع، كان البخاري قد لاحظ ذلك وعقّبه بباب الخشوع.


1- ابن حجر، فتح الباري في شرح صحيح البخاري 2: 224، باب وضع اليمنى على اليسرى- ورواه البيهقي في السنن الكبرى 2: 28، باب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة.
2- المراد: إسماعيل بن أبي أويس شيخ البخاري كما جزم به الحميدي. لاحظ فتح الباري 5: 325.

ص: 50

وثانياً: إنّ في ذيل السند ما يؤيد أنّه كان من عمل الآمرين، لا الرسول الأكرم نفسه حيث قال: قال إسماعيل: «لا أعلمه إلّايُنمى ذلك إلى النبي» بناءً على قراءة الفعل بصيغة المجهول.

ومعناه أنّه لا يعلم كونه أمراً مسنوناً في الصلاة، غير أنّه يُعزى وينسب إلى النبي، فيكون ما يرويه سهل بن سعد مرفوعاً.

قال ابن حجر: ومن اصطلاح أهل الحديث إذا قال الراوي يُنميه، فمراده: يرفع ذلك إلى النبي (1)60.

هذا كلّه إذا قرأناه بصيغة المجهول، وأمّا إذا قرأناه بصيغة المعلوم، فمعناه أنّ سهلًا ينسب ذلك إلى النبي، فعلى فرض صحّة القراءة وخروجه بذلك من الإرسال والرفع، يكون قوله: «لا أعلمه إلّا ...» معرباً عن ضعف النسبة، وأنّه سمعه عن رجل آخر ولم يسم.

ب- حديث وائل بن حجر

وقد روي هذا الحديث بصور:

1- روى مسلم، عن وائل بن حُجر: انّه رأى النبي رفع يديه حين دخل في الصلاة كبّر، ثمّ التحف بثوبه، ثمّ وضع يده اليمنى على اليسرى، فلمّا أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثمّ رفعهما، ثمّ كبّر فركع ...(2)61.


1- المصدر السابق، هامش رقم 1.
2- مسلم، الصحيح 1: 382، الباب 15 من كتاب الصلاة، باب وضع يده اليمنى على اليسرى، وفي سند الحديث «همام» ولو كان المقصود، هو همام بن يحيى فقد قال ابن عمار فيه: كان يحيى القطّان لا يعبأ ب «همام» وقال عمر بن شيبة: حدّثنا عفان قال: كان يحيى بن سعيد يعترض على همام في كثير من حديثه. وقال أبو حاتم: ثقة في حفظه. لاحظ هدى الساري 1: 449.

ص: 51

والاحتجاج بالحديث احتجاج بفعل النبي وهو متوقف على تمام دلالته على ذلك، لأنّ ظاهر الحديث أنّ النبي جمع أطراف ثوبه فغطّى صدره به، ووضع يده اليمنى على اليسرى، أمّا هل فعل ذلك لكونه أمراً مسنوناً في الصلاة، أو فعله لئلّا يسترخي الثوب بل يلصق بالبدن ليقي به نفسه من البرد؟ والفعل أمر مجهول العنوان، لا يكون حجّة إلّاإذا علم أنّه فعل به لكونه مسنوناً. ثمّ انّ النبيّ الأكرم صلّى مع المهاجرين والأنصار أزيد من عشر سنوات، فلو كان ذلك ثابتاً من النبيّ لكثر النقل وذاع، ولما انحصر نقله بوائل بن حجر، مع ما في نقله من الاحتمالين.

نعم روي بصورة أُخرى ليس فيه قوله: «ثمّ التحف بثوبه» وإليك صورته:

2- روى البيهقي بسنده عن موسى بن عمير: حدّثني علقمة بن وائل، عن أبيه: انّ النبي صلى الله عليه و آله كان إذا قام في الصلاة قبض على شماله بيمينه، ورأيت علقمة يفعله (1)62.

وبما أنّه إذا دار الأمر بين الزيادة والنقيصة فالثانية هي المتعيّنة، فيلاحظ على الرواية بما لوحظ على الأُولى، وهو أنّ وجه الفعل غير معلوم فيها. فلو كان النبي مقيماً على هذا العمل، لاشتهر بين الناس، مع أنّ قوله: «ورأيتُ علقمة يفعله» يعرب عن أنّ الراوي تعرّف على السنّة من طريقه.


1- سنن البيهقي 2: 28، وفي سند الحديث عبد اللَّه بن جعفر، فلو كان هو ابن نجيح قال ابن معين: ليس بشي ء، وقال النسائي: متروك، وكان وكيع إذا أتى على حديثه جزّ عليه، متّفق على ضعفه. لاحظ دلائل الصدق للشيخ محمد حسن المظفر 1: 87.

ص: 52

3- رواه البيهقي أيضاً بسند آخر عن وائل بن حجر(1)63 ويظهر الإشكال فيه بنفس ما ذكرناه في السابق.

ج- حديث عبد اللَّه بن مسعود

روى البيهقي مسنداً عن ابن مسعود رضى الله عنه انّه كان يصلّي فوضع يده اليسرى على اليمنى فرآه النبي صلى الله عليه و آله فوضع يده اليمنى على اليسرى (2)64.

يلاحظ عليه: مضافاً إلى أنّه من البعيد أن لا يعرف مثل عبد اللَّه بن مسعود ذلك الصحابي الجليل ما هو المسنون في الصلاة مع أنّه من السابقين في الإسلام: أنّ في السند هشيم بن بشير وهو مشهور بالتدليس (3)65.

ولأجل ذلك نرى أنّ أئمة أهل البيت كانوا يتحرّزون عنه، ويرونه أنّه من صنع المجوس أمام الملك.

روى محمد بن مسلم عن الصادق أو الباقر عليه السلام قال: قلت له:

الرجل يضع يده في الصلاة- وحكى- اليمنى على اليسرى؟ فقال: ذلك التكفير، لا يُفعل.

وروى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام انّه قال: وعليك بالإقبال على صلاتك، ولا تكفّر، فإنّما يصنع ذلك المجوس.

وروى الصدوق باسناده عن عليّ عليه السلام انّه قال: وعليك بالإقبال


1- المصدر نفسه وفي سنده عبد اللَّه بن رجاء. قال عمرو بن علي الفلاس: كان كثير الخلطوالتصحيف، ليس بحجّة. لاحظ هدى الساري 1: 437.
2- سنن البيهقي 2: 28، باب وضع اليد اليمنى على اليسرى.
3- هدى الساري 1: 449.

ص: 53

على صلاتك، ولا تكفّر فإنّما يصنع ذلك المجوس.

وروى الصدوق باسناده عن عليّ عليه السلام انّه قال: لا يجمع المسلم يديه في صلاته، وهو قائم بين يدي اللَّه عزّوجلّ، يتشبّه بأهل الكفر- يعني المجوس-(1)66.

وفي الختام نلفت نظر القارئ إلى كلمة صدرت من الدكتور علي السالوس: فهو بعدما نقل آراء فقهاء الفريقين، وصف القائلين بالتحريم والإبطال بقوله: «وأُولئك الذين ذهبوا إلى التحريم والإبطال، أو التحريم فقط، يمثّلون التعصّب المذهبي وحبّ الخلاف، تفريقاً بين المسلمين»(2)67.

ما ذنب الشيعة إذا هداهم الاجتهاد والفحص في الكتاب والسنّة إلى أنّ القبض أمر حدث بعد النبي الأكرم، وكان النّاس يؤمرون بذلك أيام الخلفاء، فمن زعم أنّه جزء من الصلاة فرضاً أو استحباباً، فقد أحدث في الدين ما ليس منه، أفهل جزاء من اجتهد أن يُرمى بالتعصّب المذهبي وحبّ الخلاف؟!

ولو صحّ ذلك، فهل يمكن توصيف الإمام مالك به؟ لأنّه كان يكره القبض مطلقاً، أو في الفرض، أَفهل يصحّ رمي إمام دار الهجرة بأنّه كان يحبّ الخلاف؟

أجل، لماذا يا ترى لا يكون عدم الإرسال ممثلًا للتعصب المذهبي وحبّ الخلاف بين المسلمين؟!


1- الحر العاملي، الوسائل 4: الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 1 و 2 و 7.
2- فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة: 183.

ص: 54

المسألة الرابعة: صلاة الضحى

اشارة

صلاة الضحى من النوافل الرواتب المشهورة في كتب الفقه والحديث لأهل السنّة وإن كانت مجهولة ومتروكة عند الكثير من عامّتهم.

ويمكننا في هذه العجالة أن نلقي نظرة خاطفة على ما يتعلّق بصلاة الضحى من قبيل: حكمها وأقوال الفقهاء حولها، ووقتها، وعدد ركعاتها، وأدلّتهم على مشروعيّتها، ونظر فقهاء الشيعة حولها.

ما هو حكمها؟

صلاة الضحى على المشهور عندهم سنّة، كما عليه الحنابلة والحنفية والشافعية.

وفي مقابل المشهور هناك أقوال أُخر، وهي:

ص: 55

1- أنّها مندوبة(1)68- كما عليه المالكية- فيستحبّ المداومة عليها.

2- لا تستحبّ أصلًا.

3- يستحب فعلها تارة وتركها أُخرى، فلا يستحب المداومة عليها.

4- تستحب صلاتها والمحافظة عليها في البيوت.

5- لا تشرع إلّابسبب مثل الشكر وغيره.

6- أنّها بدعة(2)69.

متى وقتها؟

ووقتها من ارتفاع الشمس قدر رمح، إلى زوالها، والأفضل أن يبدأها بعد ربع النهار. وعبر عن وقتها بهذه العبارة أيضاً: وأفضل وقتها إذا علت الشمس واشتدّ حرّها، ويمتدّ وقتها إلى زوال الشمس، وأوّلة حين تبيضّ الشمس (3)70.

كم عدد ركعاتها؟

أقلّها ركعتان وأكثرها ثمان، وقيل اثنتا عشرة ركعة، وقال


1- يفرق بين المسنون والمندوب، بأنّ الأول هو ما واظب عليه النبي صلى الله عليه و آله والخلفاء الراشدون والثاني هو ما أمر به النبي صلى الله عليه و آله ولم يواظب عليه. (الفقه على المذاهب الخمسة، للشيخ محمد جواد مغنية: 78).
2- . راجع: الشرح الكبير على المغني، شمس الدين ابن قدامى المقدسي 1: 775- والفقه على المذاهب الأربعة، عبد الرحمن الجزيري 1: 332- وفقه السنة، السيد سابق 1: 185- وزاد المعاد لابن قيم الجوزيه 1: 116-/ 119- ونيل الأوطار للشوكاني 3: 62.
3- . راجع: الشرح الكبير على المغني، شمس الدين ابن قدامى المقدسي 1: 775- والفقه على المذاهب الأربعة، عبد الرحمن الجزيري 1: 332- وفقه السنة، السيد سابق 1: 185- وزاد المعاد لابن قيم الجوزيه 1: 116-/ 119- ونيل الأوطار للشوكاني 3: 62.

ص: 56

الحنيفية: أكثرها ستّ عشرة، وذهب بعض الشافعية والطبري إلى أنّه لا حدّ لأكثرها.

وقالوا بأنّه يكره أن يصلّى في نفل النهار زيادة على أربع ركعات بتسليمة واحدة(1)71.

أدلتها؟

لا دليل لهم على مشروعيّتها إلّامجموعة أحاديث وردت في مجاميعهم الحديثية. ولكن بعد التمحيص والتنقيب يتجلّى عدم نهوضها للحجية على ذلك. لأنّها إمّا مجملة تقصر دلالتها عن الاثبات، وإمّا مروية عن طرق لا يصح الاحتجاج بها، مضافاً إلى معارضتها بأحاديث نافية للمشروعية، راجحة عليها سنداً ودلالة.

وإليك نماذج من تلك الطوائف الثلاث، وعليها يمكن قياس سائر الأحاديث التي لم نذكرها هنا رعاية للاختصار.

الطائفة الأولى:

الأحاديث المجملة، منها:

1- ما روي عن نعيم بن هماز، قال: سمعت النبي صلى الله عليه و آله يقول: قال اللَّه عزّوجلّ يا ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات في أول نهارك أكفك آخره (2)72.


1- المصادر نفسها.
2- التاج الجامع للأصول 1: 321.

ص: 57

رواه أبو داود وأحمد والترمذي.

ولفظه: ابن آدم اركع من أوّل النهار أربع ركعات أكفك آخره.

وليس في هذا تصريح بصلاة الضحى، ولا ظهور لاحتمال أنّ المقصود من الأربع هو فريضة الفجر ونافلتها، كما اختاره مثل ابن تيمية وابن قيم (1)73، واحتمله البعض الآخر مثل الشوكاني والعراقي (2)74.

2- ما روي عن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهنّ حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كلّ شهر، وصلاة الضحى ونوم على وتر(3)75.

احتمل في هذا الحديث اختصاص الوصية بأبي هريرة وأمثاله الذين لا يستيقضون لنافلة الليل أو ينشغلون عنها، بأن يصلّوها في الضحى قضاءً، ويؤيده قوله: «ونوم على وتر».

قال ابن قيم: «وأما أحاديث الترغيب فيها والوصية بها فالصحيح منها، كحديث أبي هريرة وأبي ذر لا يدلّ على أنّها سنّة راتبة لكلّ أحد، وإنّما أوصى أبا هريرة بذلك لأنّه قد روي أنّ أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على الصلاة، فأمره بالضحى بدلًا من قيام الليل، ولهذا أمره لا ينام حتى يوتر ولم يأمر بذلك أبا بكر وعمر وسائر الصحابة»(4)76.

3- روي عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة أنّه قال: دخلت على


1- زاد المعاد 1: 120.
2- نيل الأوطار 3: 64.
3- صحيح البخاري 2: 73.
4- زاد المعاد 1: 118.

ص: 58

عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته يسبّح، فقمت وراءه فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه، فلمّا جاء «يرفأ» تأخّرتُ فصففنا وراءه (1)77.

ولكن عمل الخليفة مجهول العنوان، فمن أين يعلم بأنّه كان يصلّي الضحى؟ خاصّة مع شهادة ولده كما سيأتي بأنّه ما كان يصلّيها. ثمّ إنّ الهاجرة لغة ليست بمعنى الضحى، بل بمعنى «نصف النهار عند زوال الشمس إلى العصر»(2)78 على المشهور، فسبحة الهاجرة تنطبق على نافلة الظهر، وبناءً على ما حكى عن ابن السكيت بأنّ: الهاجرة إنّما تكون بالقيظ، وقبل الظهر بقليل وبعدها بقليل (3)79 فالرواية مجملة، إذ كما يحتمل فيها صلاة الضحى يحتمل نافلة الظهر، ولا مرجح للأوّل على الثاني.

4- ما روي عن أبي هريرة قال: ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصلّي الضحى قطّ إلّامرّة(4)80.

فصدر الحديث ينفي صلاة الضحى وذيله مجمل، لاحتمال أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان قد صلّى صلاة بسبب آخر، كالحاجة أو غيرها، وخفى على أبي هريرة، فتصوّر أنّه صلّى الضحى، إذ ليس فيه أنّ النبي صلى الله عليه و آله أعرب عن نيّة عمله.

5- ما روي عن أنس أنّه قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في سفر صلّى سبحة الضحى ثماني ركعات، فلمّا انصرف قال: إنّي صلّيت صلاة رغبة


1- الموطأ للامام مالك 1: 131 ح 209 «يرقأ» اسم خادم عمر.
2- و (3) لسان العرب، مادة «هجر».
3- 3
4- مسند الامام أحمد بن حنبل 2: 446.

ص: 59

ورهبة، سألت ربّي ثلاثاً فأعطاني اثنتين وضعني واحدة: سألته ألّا يبتلي أُمّتي بالسنين ففعل، وسألته ألّا يُظهر عليهم عدوّهم ففعل، وسألته ألّا يلبسهم شيعاً فأبى عليَ (1)81.

يرد على الاستدلال به، أوّلًا: مثل ما مضى على سابقه، وثانياً: انّ ذيله يتناقض مع الواقع التاريخي للأُمة الإسلامية. فكم من بلد إسلامي ابتلى بالقحط والسنين، وما أكثر البلدان الإسلامية التي وقعت تحت سيطرة أعدائها في الزمن الغابر والحاضر.

وهذا ممّا يطمئننا باختلاقه ووضعه.

الطائفة الثانية:

الأحاديث الموضوعة:

قال ابن قيم الجوزية (691- 751) في تقييم أحاديث صلاة الضحى: «وعامة أحاديث الباب في أسانيدها مقال، وبعضها موضوع لا يحلّ الاحتجاج به»(2)82.

ثمّ ذكر عدّة أحاديث قد صرّح أعلام الرجاليين بكون نقلتها وضاعين كذبة، منها:

1- ما روي عن أنس مرفوعاً: «من داوم على صلاة الضحى ولم يقطعها إلّاعن علّة كنت أنا وهو في زورق من نور في بحر من نور».

وضعه زكريا بن دريد الكندي عن حميد.


1- فقه السنة، السيد سابق 1: 185- وكنز العمال 11: 174.
2- زاد المعاد 1: 119.

ص: 60

2- حديث يعلى بن أشدق، عن عبد اللَّه بن جراد، عن النبي صلى الله عليه و آله انّه قال: «من صلّى منكم صلاة الضحى فليصلّها متعبداً، فانّ الرجل ليصليها السنّة من الدهر ثمّ ينساها ويدعها فتحنّ إليه كما تحنّ الناقة على ولدها إذا فقدته».

ويا عجباً للحاكم كيف يحتجّ بهذا وأمثاله؟! فانّه يروي هذا الحديث في كتاب أفرده للضحى، وهذه نسخة موضوعة على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، يعني نسخة يعلى بن الأشدق.

وقال ابن عدي: روى يعلى بن الاشدق، عن عمّه عبد اللَّه بن جراد، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أحاديث كثيرة منكرة، وهو وعمّه غير معروفين.

وبلغني عن ابن مسهر قال: قلت ليعلى بن الأشدق: ما سمع عمك من حديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: جامع سفيان وموطأ مالك وشيئاً من الفوائد، وقال أبو حاتم بن حبان: لقي يعلى عبد اللَّه بن جراد، فلمّا كبر اجتمع عليه من لا دين له فوضعوا له شبهاً بمائتي حديث، فجعل يحدّث بها وهو لا يدري. وهو الذي قال له بعض أصحابنا: أي شي ء سمعته عن عبد اللَّه بن جراد؟ فقال: هذه النسخة، وجامع أبي سفيان، لا تحلّ الرواية عنه بمجال.

3- حديث عمر بن صبيح، عن مقاتل بن حبان، عن عائشة: «كان رسول اللَّه يصلّي الضحى اثنتي عشرة ركعة».

وهو حديث طويل ذكره الحاكم في صلاة الضحى، وهو حديث موضوع، والمتهم به عمر بن صبيح.

قال البخاري: حدّثني يحيى بن عليّ بن جبير، قال: سمعت عمر

ص: 61

بن صبيح يقول: أنا وضعت خطبة النبي صلى الله عليه و آله. وقال ابن عدي: منكر الحديث. وقال ابن حبان: يضع الحديث على الثقات، لا يحلّ حديثه إلّا على جهة التعجّب منه. وقال الدارقطني: متروك، وقال الأزدي: كذاب.

4- حديث عبد العزيز بن أبان، عن الثوري، عن حجاج بن فرافصة، عن مكحول، عن أبي هريرة مرفوعاً: «من حافظ على سبحة الضحى غفرت ذنوبه، وإن كانت بعدد الجراد وأكثر من زبد البحر».

ذكره الحاكم أيضاً، وعبد العزيز هذا، قال ابن نمير: هو كذاب.

وقال يحيى: ليس بشي ء كذاب، خبيث يضع الحديث. وقال البخاري والنسائي والدارقطني: متروك الحديث.

5- حديث النهاس بن فهم، عن شدّاد، عن أبي هريرة يرفعه: «من حافظ على سبحة الضحى غفرت ذنوبه وإن كانت أكثر من زبد البحر».

والنهاس، قال يحيى: ليس بشي ء ضعيف، كان يروي عن عطاء، عن ابن عباس أشياء منكرة.

وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن عدي: لا يساوي شيئاً. وقال ابن حبان: كان يروي المناكير عن المشاهير، ويخالف الثقات، لا يجوز الاحتجاج به. وقال الدارقطني: مضطرب الحديث تركه يحيى القطان (1)83.

الطائفة الثالثة:

الأحاديث النافية لمشروعية صلاة الضحى التي هي معارضة


1- راجع حول الأحاديث الموضوعة وعمّا جاء حول رواتها، زاد المعاد 1: 119- 120.

ص: 62

للأحاديث المثبتة، وباعتبار قوّة دلالتها واسنادها رجحها جماعة من علماء العامّة على غيرها، كما صرّح بذلك ابن قيم.

قال: «وطائفة ثانية ذهبت إلى أحاديث الترك، ورجحتها من جهة صحّة اسنادها وعمل الصحابة بموجبها»(1)84.

منها:

1- ما رواه البخاري بسنده عن مورق قال: «قلت لابن عمر:

أتصلّي الضحى؟

قال: لا. قلت: فعمر؟ قال: لا. قلت: فأبو بكر؟ قال: لا. قلت:

فالنبي صلى الله عليه و آله؟ قال: لا أخاله»(2)85.

2- وما رواه أيضاً بسنده عن عائشة، قالت: «ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سبّح سبحة الضحى، وإنّي لأسبّحها»(3)86.

وقد استدلّ بعضهم بهذه الرواية لنفي الضحى لصحّة اسنادها.

«قال أبو الحسن عليّ بن بطال: فأخذ قوم من السلف بحديث عائشة ولم يروا صلاة الضحى، وقال قوم: انّها بدعة»(4)87.

وأما قول عائشة «بأني أسبّحها»، فهو اجتهاد في مقابل النص، ولا قيمة له في سوق الاعتبار الشرعي.

3- وما رواه أيضاً بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى انّه قال: ما


1- المصدر: 117.
2- صحيح البخاري 2: 73.
3- المصدر- ومسند أحمد بن حنبل 6: 209.
4- زاد المعاد 1: 117.

ص: 63

حدّثنا أحد انّه رأى النبي صلى الله عليه و آله يصلّي الضحى غير أمّ هانئ، فانّها قالت: «إنّ النبي صلى الله عليه و آله دخل بيتها يوم فتح مكّة فاغتسل وصلّى ثماني ركعات، فلم أر صلاة قطّ أخفّ منها، غير انّه يتمّ الركوع والسجود»(1)88.

ونفى هذا الحديث حديث أحد رأى النبي صلى الله عليه و آله يصلّي الضحى، وأمّا رواية أُمّ هانئ فليست ظاهرة في صلاة الضحى، ويحتمل قوياً أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله صلّى تلك الركعات شكراً للَّه على ما منّ عليه بفتح مكّة.

ولذلك ذهبت جماعة من علماء العامّة «بأنها لا تشرع إلّابسبب الخ»(2)89.

4- ما رواه أحمد بن حنبل بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: «رأى أبو بكرة ناساً يصلّون الضحى فقال: انّهم ليصّلون صلاة ما صلّاها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ولا عامّة أصحابه- رضي اللَّه عنهم-»(3)90.

5- ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن حفص بن عاصم قال:

مرضت مرضاً فجاء ابن عمر يعودني قال: وسألته عن السبحة في السفر؟ فقال: «صحبت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في السفر فما رأيته يسبّح، ولو كنت مسبحاً لأتممت، وقد قال اللَّه: لقد كان كان لكم في رسول اللَّه أسوة حسنة»(4)91.

6- وما رواه البخاري بسنده عن مجاهد، قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فاذا عبد اللَّه بن عمر جالس إلى حجرة عائشة وإذا أناس يصلّون في المسجد صلاة الضحى. قال: فسألناه عن صلاتهم،


1- البخاري 2: 73.
2- نيل الأوطار للشوكاني 3: 53.
3- مسند الامام أحمد بن حنبل 5: 45.
4- صحيح مسلم 5: 199 كتاب المسافرين.

ص: 64

فقال: بدعة»(1)92.

7- وروي عن الشعبي قال: «سمعت ابن عمر يقول: ما ابتدع المسلمون أفضل من صلاة الضحى»(2)93.

ففي هاتين الروايتين صرح ابن عمر بكون صلاة الضحى بدعة، وإن رآها فضيلة بناء على مسلك والده في جواز الابتداع الحسن.

8- روي عن ابن عباس أنّه قال صلى الله عليه و آله: «أمرت بالضحى ولم تؤمروا بها»(3)94.

بناءً على صحة الحديث فالظاهر انّ المراد من الأمر هنا هو أصل التشريع لا الوجوب، لأنّه لم يثبت وجوب شي ء من النوافل على النبي صلى الله عليه و آله حاصلة ما عدا نافلة الليل. وعليه فلم تشرع نافلة له وضحى للمسلمين لأنّه نفى الأمر بها عليهم.

*** إلى هنا تبيّن أنّه لم يوجد حديث صحيح فيه دلالة واضحة على مشروعية صلاة الضحى. وأما ما ادعيت صحّته فهو إمّا معارض بالراحج عليه سنداً ودلالة أو فيه إجمال لا يمكن أن يستدلّ به على المقصود.

موقف الإمامية من صلاة الضحى

إنّ صلاة الضحى عند فقهاء الامامية، بدعة لا يجوز فعلها. وقد


1- صحيح البخاري 3: 3 باب العمرة.
2- زاد المعاد 1: 118.
3- نيل الأوطار للشوكاني 3: 61.

ص: 65

اتّفقوا وأجمعوا على هذا الرأي، كما صرّح بذلك السيد الشريف المرتضى في رسائله (1)95، وشيخ الطائفة في الخلاف (2)96، والعلامة الحلي في المنتهى (3)97، والعلامة المجلسي في البحار(4)98، والمحدث في الحدائق الناضرة(5)99.

ويدلّ على هذا الرأي قبل الإجماع، أولًا: عدم الدليل الشرعي المعتبر على مشروعيّة صلاة الضحى، وهذا يكفي للقول بعدمها إذ لا يطالب النافي بدليل، بل الدليل على المدعي.

وثانياً: الأخبار المستفيضة الواردة عن طرق أهل البيت عليهم السلام النافية لمشروعية صلاة الضحى، والمصرّح في بعضها أنّ العمل بها بدعة ومعصية، منها:

1- ما رواه الشيخ الطوسي، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة وابن مسلم والفضيل، قالوا: سألناهما عليهما السلام عن الصلاة في رمضان نافلة بالليل جماعة، فقالا:

إنّ النبي صلى الله عليه و آله كان إذا صلّى العشاء الآخرة انصرف إلى منزله، ثمّ يخرج من آخر الليل إلى المسجد فيقوم فيصلّي. فخرج في أول ليلة من شهر رمضان ليصلّي، كما كان يصلّي، فاصطفّ الناس خلفه فهرب منهم الى بيته وتركهم ففعلوا ذلك ثلاث ليال، فقام في اليوم الرابع على منبره (6)


1- رسائل الشريف المرتضى 1: 221.
2- الخلاف، موسوعة الينابيع الفقهية 28: 220.
3- البحار 80: 158
4- المصدر: 155.
5- الحدائق الناضرة 6: 77.
6- آية الله الشيخ جعفر السبحاني، على مائدة العقيدة 08 سبع مسائل فقهية دراسة مبسّطة لمسائل فقهية خلافية على ضوء الكتاب و السنة، 1جلد، نشر مشعر - تهران، چاپ: 1.

ص: 66

فحمد اللَّه وأثنى عليه ثمّ قال: «أيها الناس انّ الصلاة بالليل في شهر رمضان النافلة في جماعة بدعة، وصلاة الضحى بدعة فلا تجتمعوا ليلًا في شهر رمضان، ولا تصلّوا صلاة الضحى، فانّ ذلك معصية، ألا وانّ كلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار» ثمّ نزل وهو يقول: «وقليل في سنّة خير من كثير في بدعة»(1)101.

2- ما حكي عن دعائم الإسلام عن أبي جعفر الباقر عليه السلام انّه قال لرجل من الأنصار سأله عن صلاة الضحى، فقال: «إنّ أوّل من ابتدعها قومك الأنصار، سمعوا قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: صلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة، فكانوا يأتون من ضياعهم ضحى فيدخلون المسجد فيصلّون، فبلغ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فنهاهم عنه»(2)102.


1- التهذيب 3: 69-/ 70- ومثله في الاستبصار 1: 467-/ 468- والفقيه 2: 132- والوسائل 5: 192.
2- المجلسي، البحار 80: 159، النوري، المستدرك 3: 70- لاحظ من لا يحضره الفقيه 1: 566 وفي الأخير زيادة على ما في المتن.

ص: 67

المسألة الخامسة: إقامة صلاة التراويح جماعة

اشارة

اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ نوافل شهر رمضان (صلاة التراويح) سُنّة مؤكّدة، وأوّل من سنّها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقال: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه»(1)103.

إنّ استجلاء الحقّ في جواز إقامتها جماعة، أو كونها بدعة يتطلّب تقديم أُمور:

1- هل تُسنُّ الجماعة في مطلق النوافل أو لا؟

المشهور عند أهل السنّة جواز إقامة النوافل جماعة، والأفضل في بعضها إقامتها منفرداً، وإليك تفصيل مذاهبهم:


1- البخاري، الصحيح باب فضل من قام رمضان برقم 2008- مسلم ج 2 باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح: 176 ط دار الجيل ودار الآفاق بيروت.

ص: 68

قالت المالكية: الجماعة في صلاة التراويح مستحبّة، أمّا باقي النوافل فانّ صلاتها جماعة تارةً يكون مكروهاً، وتارة يكون جائزاً، فيكون مكروهاً إذا صلّيت بالمسجد أو صلّيت بجماعة كثيرين، أو كانت بمكان يكثر تردد الناس عليه، وتكون جائزة إذا كانت بجماعة قليلة، ووقعت في المنزل ونحوه من الأمكنة التي لا يتردّد عليها الناس.

وقالت الحنفية: تكون الجماعة سنّة كفاية في صلاة التراويح والجنازة، وتكون مكروهة في صلاة النوافل مطلقاً، والوتر في غير رمضان، وانّما تكره الجماعة في ذلك إذا زاد المقتدون عن ثلاثة، أمّا الجماعة في وتر رمضان ففيها قولان مُصحّحان، أحدهما: أنّها مستحبّة فيه، ثانيهما: أنّها غير مستحبّة، ولكنها جائزة، وهذا القول أرجح.

وقالت الشافعية: أمّا الجماعة في صلاة العيدين والاستسقاء والكسوف والتراويح ووتر رمضان فهي مندوبة.

وقالت الحنابلة: أمّا النوافل فمنها ما تُسَنّ فيه الجماعة، وذلك كصلاة الاستسقاء والتراويح والعيدين، ومنها ما تباح فيه الجماعة، كصلاة التهجد ورواتب الصلاة المفروضة(1)104.

وقال المقدسي في الشرح الكبير: ويجوز التطوّع في جماعة وفرادى، لأنّ النبي صلى الله عليه و آله فعل الأمرين كليهما، وكان أكثر تطوّعه منفرداً، ومع ذلك اتّفقوا على أنّ التطوّع في البيت أفضل، لقول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليكم بالصلاة في بيوتكم، فانّ خير صلاة المرء في بيته إلّاالمكتوبة.


1- الفقه على المذاهب الأربعة، كتاب الصلاة، حكم الامامة في صلاة الجمعة والجنائز والنوافل: 407، وفي ص 340 هي سنة عين مؤكدة عند ثلاثة من الأئمة وخالفت المالكية.

ص: 69

وقال عليه السلام: «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، فانّ اللَّه جاعل في بيته من صلاته خيراً» رواها مسلم.

وعن زيد بن ثابت انّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلّاالمكتوبة» رواه ابو داود، ولأنّ الصلاة في البيت أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء وهو من عمل السرّ، والسرّ أفضل من العلانية(1)105.

قالت الإمامية: تشرع الجماعة في الصلوات الواجبة، ولا تشرع في المستحبّة، إلّافي الاستسقاء والعيدين مع فقد الشروط(2)106. وقالت المذاهب الأربعة: تشرع مطلقاً في الواجبة والمستحبّة(3)107.

2- التراويح لغةً واصطلاحاً

التراويح: جمع ترويحة، وهي في الأصل اسم للجلسة مطلقاً، ثمّ سميت بها الجلسة بعد أربع ركعات في ليالي رمضان، لاستراحة الناس بها، ثمّ سُمي كلّ أربع ركعات ترويحة، وهي أيضاً اسم لعشرين ركعة في الليالي نفسها.

قال ابن منظور: والترويحة في شهر رمضان: سميت بذلك لاستراحة القوم بعد كلّ أربع ركعات. وفي الحديث: صلاة التراويح، لأنّهم كانوا يستريحون بين كلّ تسليمتين. والتراويح جمع ترويحة،


1- المغني والشرح 1: 771، دار الكتاب العربي ط أفست 1403/ 1983.
2- إذ عند اجتماع الشروط، تكون واجبة.
3- محمد جواد مغنية، الفقه على المذاهب الخمسة 1: 133.

ص: 70

وهي المرة الواحدة من الراحة، تفعيلة منها، مثل تسليمة من السلام (1)108.

عدد ركعاتها عند الفريقين

اختلف الفقهاء في عدد صلاة نوافل شهر رمضان، أمّا الشيعة فقد ذهبت إلى نوافل ليالي شهر رمضان، ألف ركعة في تمام الشهر.

قال الامام الصادق عليه السلام: ممّا كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصنع في شهر رمضان، كان يتنفل في كلّ ليلة ويزيد على صلاته التي كان يصلّيها قبل ذلك منذ أوّل ليلة إلى تمام عشرين ليلة، في كلّ ليلة عشرين ركعة، ثماني ركعات منها بعد المغرب، واثنتي عشرة بعد العشاء الآخرة، ويصلّي في العشر الأواخر في كلّ ليلة: ثلاثين ركعة، اثنتي عشرة منها بعد المغرب، وثماني عشرة بعد العشاء الآخرة ويدعو ويجتهد اجتهاداً شديداً، وكان يصلّي في ليلة إحدى وعشرين: مائة ركعة ويصلّي في ليلة ثلاث وعشرين: مائة ركعة ويجتهد فيهما(2)109.

وأما غيرهم فقد قال الخرقي في مختصره: وقيام شهر رمضان عشرون ركعة، يعني صلاة التراويح (3)110.

وقال ابن قدامة في شرحه: والمختار عن أبي عبد اللَّه «الامام أحمد» عشرون ركعة، وبهذا قال الثوري، وأبو حنيفة والشافعي، وقال مالك: ستّة وثلاثون، وزعم أنّه الأمر القديم، وتعلّق بفعل أهل المدينة(4)111


1- لسان العرب، ج 2 مادة «روح».
2- الطوسي، التهذيب 3: 62 رقم 213.
3- . المغني 2: 137- 138.
4- . المغني 2: 137- 138.

ص: 71

والظاهر انّه ليس في عددها عند أهل السنّة دليل معتمد عليه، يحكي عن قول الرسول أو فعله أو تقريره، والقول بالعشرين يعتمد على فعل عمر، كما أنّ القول بالستّة والثلاثين يعتمد على فعل عمر بن عبد العزيز.

وقد فصّل القول في ذلك عبد الرحمن الجزيري في «الفقه على المذاهب الأربعة» وقال:

روى الشيخان أنّه صلى الله عليه و آله خرج من جوف الليل ليالي من رمضان، وهي ثلاث متفرقة: ليلة الثالث، والخامس، والسابع والعشرين، وصلّى في المسجد، وصلّى الناس بصلاته فيها، وكان يصلّي بهم ثماني ركعات، ويُكْملون باقيها في بيوتهم، فكان يسمع لهم أزيز، كأزيز النحل ... وقال:

ومن هذا يتبيّن انّ النبي صلى الله عليه و آله سنّ لهم التراويح والجماعة، ولكن لم يصلّ بهم عشرين ركعة، كما جرى عليه العمل من عهد الصحابة ومن بعدهم الى الآن، ولم يخرج إليهم بعد ذلك، خشية أن تُفْرض عليهم، كما صرّح به في بعض الروايات، ويُتَبيّنُ أنّ عددها ليس قاصراً على الثماني ركعات التي صلّاها بهم، بدليل أنّهم كانوا يكملونها في بيوتهم، وقد بيّن فعل عمر رضى الله عنه انّ عددها عشرون، حيث انّه جمع الناس أخيراً على هذا العدد في المسجد، ووافقه الصحابة على ذلك. نعم زيد فيها في عهد عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه وجعلت ستاً وثلاثين ركعة. ولكن كان القصد من هذه الزيادة مساواة أهل مكة في الفضل، لأنّهم كانوا يطوفون بالبيت بعد كلّ أربع ركعات مرّة، فرأى رضى الله عنه أن يصلّي بدل كلّ طواف،

ص: 72

أربع ركعات (1)112.

هذا وقد بسط شراح البخاري وغيرهم القول في عدد ركعاتها إلى حدٍّ قلّ نظيره في أبواب العبادات، فمن قائل انَّ عدد ركعاتها 13 ركعة، الى آخر أنها 20 ركعة، إلى ثالث انَّها 24 ركعة، إلى رابع انها 28 ركعة، إلى خامس 36 ركعة، إلى سادس انها 38 ركعة، إلى سابع انها 39 ركعة، إلى ثامن أنها 41 ركعة، إلى تاسع أنها 47 ركعة، وهلمّ جراً(2)113.

والأغرب من هذا تدخل عمر بن عبد العزيز في أمر الشريعة، فأدخل فيها ما ليس منها ليتساوى- في رأيه- أهل المدينة وأهل مكة، في الفضل والثواب، فانّ فسح المجال لهذا النوع من التدخّل يجعل الشريعة أُلعوبة بيد الحكام، يحكمون فيها بآرائهم.

حكم إقامتها جماعة

إنّ الشيعة الامامية- تبعاً للامام عليّ وأهل بيته عليهم السلام- يقيمون


1- الفقه على المذاهب الأربعة 1: 251، كتاب الصلاة، مبحث صلاة التراويح. ولا يخفى انّه لو كان المقياس في الزيادة، هو عدد الطواف بعد كلّ أربع ركعات فعندئذٍ يصل عددها إلى أربعين ركعة في كلّ ليلة لأنهم إذا كانوا يطوفون بعد كلّ أربع ركعات مرّة واحدة، يكون عددها خمس مرّات، فاذا كان مقابل كلّ مرّة منه أربع ركعات، يبلغ عددها عشرين ركعة (5* 4/ 20) فتضاف إلى العشرين ركعة الأصلية فيصير المجموع 40 ركعة. نعم ذلك يصحّ على ما نقله ابن قدامة المقدسي من أنّ الطواف كان بين كلّ ترويحة. (لاحظ 1: 749)
2- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري 4: 204- شهاب الدين القسطلاني، ارشاد الساري 3: 426- العيني، عمدة القاري 11: 126، وقد تكلفوا في الجمع بين هذه الأقوال المتشتتة، فلاحظ.

ص: 73

نوافل شهر رمضان بلا جماعة ويرون اقامتها جماعة بدعة حقيقية، حدثت بعد رسول اللَّه، بمقياس (1)114 ما أنزل اللَّه به من سلطان.

قال الشيخ الطوسي: نوافل شهر رمضان تصلّى انفراداً، والجماعة فيها بدعة، وقال الشافعي: صلاة المنفرد أحبّ إليَّ منه، وشنع ابن داود على الشافعي في هذه المسألة، فقال: خالف فيها السنّة والاجماع.

واختلف أصحاب الشافعي في ذلك على قولين، فقال أبو العباس وأبو إسحاق وعامة أصحابه: صلاة التراويح في الجماعة أفضل بكلّ حال، وتأوّلوا قول الشافعي فقالوا: انّما قال: النافلة ضربان، نافلة سُنَّ لها الجماعة، وهي العيدان، والخسوف، والاستسقاء ونافلة لم تُسنَّ لها الجماعة، مثل ركعتي الفجر والوتر، وما سنّ له الجماعة أو كد مما لم تُسَّنَّ له الجماعة، ثمّ قال: فأمّا قيام شهر رمضان فصلاة المنفرد أحبّ إليّ منها يعني ركعات الفجر والوتر، التي تفعل على الانفراد أوكد من قيام شهر رمضان.

والقول الثاني: منهم من قال بظاهر كلامه، فقال: صلاة التراويح على الانفراد أفضل منها في الجماعة، بشرطين، أحدهما: أن لا تختلّ الجماعةُ بتأخرهِ عن المسجد، والثاني: أن يطيل القيام والقراءة فيصلّي منفرداً، أو يقرأ أكثر ممّا يقرأ امامه.

وقد نصّ في القديم على أنّه إن صلّى في بيته في شهر رمضان فهو أحبّ إليّ، وإن صلّاها في جماعة فهو حسن، واختار أصحابه مذهب أبي العباس وأبي اسحاق.


1- العسقلاني، فتح الباري 4: 204، ذكره لجمع الناس على امام واحد.

ص: 74

ثمّ استدلّ الشيخ الطوسي على مذهب الإمامية بإجماعهم على أنّ ذلك بدعة. وأيضاً روى زيد بن ثابت (1)115 إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلّاالمكتوبة(2)116.

وإذا وقفت على آراء الفقهاء فإليك دراسة الأدلة:

أمّا أئمة أهل البيت فقد اتّفقت كلمتهم على أنّ الجماعة في النوافل مطلقاً بدعة، من غير فرق بين صلاة التراويح وغيرها، وهناك صنفان من الروايات.

أحدهما: يدلّ على عدم تشريع الجماعة في مطلق النوافل.

ثانيهما: ما يدلّ على عدم تشريعها في صلاة التراويح.

أمّا الصنف الأوّل فنذكر منه روايتين.

1- قال الامام الباقر عليه السلام: «ولا يُصلّى التطوعُ في جماعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار»(3)117.

2- قال الامام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون:

«ولا يجوز أن يصلّى تطوّع في جماعة، لأنّ ذلك بدعة»(4)118.

وأما الصنف الثاني، فقد تحدّث عنه الإمام الصادق عليه السلام وقال: لمّا قدم أمير المؤمنين عليه السلام الكوفة أمر الحسن بن عليّ أن ينادي في الناس: لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة، فنادى في الناس الحسنُ بن


1- أبو داود، السنن 2: 69.
2- الطوسي، الخلاف، كتاب الصلاة، المسألة 268.
3- الصدوق، الخصال 2: 152.
4- الصدوق، عيون أخبار الرضا: 266.

ص: 75

عليّ بما أمره به أمير المؤمنين، فلمّا سمع الناس مقالة الحسن عليه السلام صاحوا: وا عمراه، وا عمراه، فلمّا رجع الحسن إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال له: ما هذا الصوت؟ قال: يا أمير المؤمنين الناس يصيحون: واعمراه واعمراه، فقال أمير المؤمنين: قل لهم: صلّوا(1)119.

وربما يتعجّب القارئ من قول الامام «قل لهم: صلوا» حيث تركهم يستمرّون في الايتان بهذا الأمر المبتدع، ولكن إذا رجع إلى سائر كلماته يتجلّى له سرّ تركهم على ما كانوا عليه.

قال الشيخ الطوسي: إنّ أمير المؤمنين لمّا أنكر، أنكر الاجتماع، ولم يُنكر نفس الصلاة، فلمّا رأى أنّ الأمر يَفسُد عليه ويفتتن الناس، أجاز أمرهم بالصلاة على عادتهم (2)120.

ويدلّ عليه:

ما رواه سليم بن قيس، قال: خطب أمير المؤمنين فحمد اللَّه وأثنى عليه ثمّ صلّى على النبيّ ثمّ قال: ألا إنّ أخوف ما أخاف عليكم خلّتان:

اتّباع الهوى، وطول الأمل- ثمّ ذكر أحداثاً ظهرت بعد رسول اللَّه- وقال:

ولو حملتُ الناسَ على تركها ... لتفرق عنّي جندي حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي ... واللَّه لقد أمرتُ الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلّا في فريضة وأعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي: يا أهل الإسلام غُيِّرتْ سنّة عمر ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعاً، وقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب


1- الطوسي، التهذيب 2: ح 227.
2- المصدر نفسه.

ص: 76

عسكري ...(1)121.

تسنّم الامام منصة الخلافة بطوع ورغبة من جماهير المسلمين، وواجه أحداثاً ظهرت بعد رسول اللَّه، وأراد إرجاع المجتمع الإسلامي الى عهد رسول اللَّه في مجالات مختلفة، ولكن حالت العوائق دون نيّته، فترك بعض الأمور بحالها، حتى يشتغل بالأهم فالأهم، فلأجله أمر ابنه الحسن أن يتركهم بحالهم حتى لا يختلّ نظام البلاد، ولا يثور الجيش ضدّه.

روى أبو القاسم ابن قولويه (ت/ 369) عن الإمامين الباقر والصادق قالا: كان أمر أمير المؤمنين بالكوفة إذا أتاه الناس فقالوا له:

إجعل لنا إماماً يؤمّنا في رمضان، فقال لهم: لا، ونهاهم أن يجتمعوا فيه، فلمّا أحسّوا، جعلوا يقولون أبكوا رمضانَ وارمضاناه، فأتى الحارث الأعور في أُناس فقال: يا أمير المؤمنين ضجّ الناس وكرهوا قولك، قال:

فقال عند ذلك: دعوهم وما يريدون، يُصلّ بهم من شاءُوا(2)122.

هذه الروايات تدلّنا إلى موقف أئمة أهل البيت في إقامة نوافل شهر رمضان بالجماعة.

صلاة التراويح في حديث الرسول صلى الله عليه و آله

تختلف روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام عن بعض ما رواه أصحاب السنن، فرواياتهم عليهم السلام صريحة في أنّ النبيّ الأكرم كان ينهى عن إقامة


1- الكليني، الكافي 8: 58.
2- محمد بن ادريس، السرائر 3: 638.

ص: 77

نوافل رمضان بالجماعة، وانّه صلى الله عليه و آله لمّا خرج بعض الليالي إلى المسجد ليقيمها منفرداً، ائتمّ به الناس فنهاهم عنه، ولمّا أحسّ إصرارهم على الائتمام ترك الصلاة في المسجد واكتفى بإقامتها في البيت، وإليك بعض ما روي في ذلك:

سئل زرارة ومحمد بن مسلم، والفضيلُ الباقر والصادق عليهما السلام عن الصلاة في شهر رمضان نافلة بالليل جماعة فقالا: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان إذا صلّى العشاء الآخرة انصرف إلى منزله، ثمّ يخرج من آخر الليل إلى المسجد فيقوم فيصلّي، فخرج في أوّل ليلة من شهر رمضان ليصلّي، كما كان يصلّي، فاصطفّ الناس خلفه، فهرب منهم إلى بيته وتركهم، ففعلوا ذلك ثلاث ليال، فقام في اليوم الرابع على منبره فحمد اللَّه وأثنى عليه ثمّ قال: أيّها الناس، إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة، وصلاة الضحى بدعة، ألا فلا تجتمعوا ليلًا في شهر رمضان لصلاة الليل، ولا تصلّوا صلاة الضحى، فانّ تلك معصية، ألا وانّ كلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار ثمّ نزل وهو يقول: قليل في سنّة خير من كثير في بدعة(1)123.

روى عبيد بن زرارة عن الامام الصادق عليه السلام قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يزيد في صلاته في رمضان، إذا صلّى العتمة صلّى بعدها، فيقوم الناس خلفه فيدخل ويدعهم، ثمّ يخرج أيضاً فيجيئون ويقومون خلفه فيدعهم ويدخل مراراً(2)124.


1- الصدوق، الفقيه، كتاب الصوم: 87.
2- الكليني، الكافي 4: 154.

ص: 78

ولعله صلى الله عليه و آله قام بهذا العمل مرّتين، تارة في آخر الليل- كما في الرواية الأولى، وأخرى بعد صلاة العتمة- كما في الرواية الثانية.

لكن المروي عن طريق أهل السنّة يخالف ذلك واليك نصّ الشيخين البخاري ومسلم:

روى الأوّل وقال: حدّثني يحيى بن بكير: حدّثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب: أخبرني عروة انّ عائشة- رضي اللَّه عنها- أخبرته أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خرج ليلة من جوف الليل فصلّى في المسجد، وصلّى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدّثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلّى فصلّوا معه، فأصبح الناس فتحدّثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فصلّى بصلاته، فلمّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلمّا قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثمّ قال: «أما بعد فانّه لم يخفَ علىّ مكانكم. ولكنّي خشيتُ أن تُفرض عليكم فتعجزوا عنها. فتوفى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والأمر على ذلك»(1)125.

وروى أيضاً في باب التهجد: «انّ رسول اللَّه صلّى ذات ليلة في المسجد فصلّى بصلاته ناس، ثمّ صلّى من القابلة فكثر النّاس ثمّ اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول اللَّه فلمّا أصبح قال: قد رأيتُ الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلّاأني


1- أي على ترك الجماعة في صلاة التراويح. لاحظ البخاري، الصحيح، باب فضل من قام رمضان: 61 رقم 2012.

ص: 79

خشيت أن تُفرَض عليكم وذلك في رمضان»(1)126.

روى مسلم قال: حدّثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة انّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صلّى في المسجد ذات ليلة فصلّى بصلاته ناس، ثمّ صلّى من القابلة فكثر الناس، ثمّ اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة(2)127 فلم يخرج إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فلمّا أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلّا انّي خشيت أن تفرض عليكم. قال: وذلك في رمضان.

وحدّثني حرملة بن يحيى: أخبرنا عبد اللَّه بن وهب: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير انّ عائشة أخبرته أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خرج من جوف الليل فصلّى في المسجد، فصلّى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدّثون بذلك فاجتمع أكثر منهم، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الليلة الثانية فصلّوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج فصلّوا بصلاته، فلمّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فطفق رجال منهم يقولون: الصلاة فلم يخرج إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى خرج لصلاة الفجر فلمّا قضى الفجر أقبل على


1- البخاري، الصحيح 2: 63 باب التهجد بالليل، وبين الروايتين اختلاف فيما خرج صلى الله عليه و آله فيها من الليالي، فعلى الاولى خرج ثلاث ليال، وعلى الثانية خرج ليلتين.
2- مسلم، الصحيح 6: 41 وغيره، والظاهر وحدة الرواية الثانية للبخاري مع هذه الروايةلاتّحاد الراوي والمروي عنه والمضمون.

ص: 80

الناس ثمّ تشهّد فقال: «أمّا بعد فانّه لم يخف على شأنكم الليلة، ولكنّي خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها»(1)128.

والاختلاف بين ما رواه أصحابنا عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وما رواه الشيخان واضح. فعلى الأوّل، نهى النبي صلى الله عليه و آله عن اقامتها جماعة، وأسماها بدعة، وعلى الثاني، ترك النبي صلى الله عليه و آله الاقامة جماعة خشية أن تُفرض عليهم، مع كونها موافقةً للدين والشريعة، إذاً فأي القولين أحقّ أن يتّبع، يعلم ذلك بالبحث التالي:

إنّ في حديث الشيخين مشاكل جديرة بالوقوف عليها:

الأولى: ما معنى قوله: «خشيتُ أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها»؟

فهل مفاده: أن ملاك التشريع هو إقبال الناس وإدبارهم، فان كان هناك اهتمام ظاهر من قبل الناس، يفرض عليهم وإلّا فلا يفرض. مع انّ الملاك في الفرض هو وجود مصالح واقعية في المتعلّق، سواء أكان هناك اهتمام ظاهر أم لا. فإنّ تشريعه سبحانه ليس تابعاً لرغبة الناس أو إعراضهم، وانّما يتّبع لملاكات هو أعلم بها سواء أكان هناك إقبال أم إدبار.

الثانية: لو افترضنا انّ الصحابة أظهرت اهتمامها بصلاة التراويح باقامتها جماعة أفيكون ذلك ملاكاً للفرض، فانّ مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله يومذاك كان مكاناً محدوداً لا يسع إلّاستّة آلاف نفر أو أقل، فقد جاء في الفقه على المذاهب الخمسة: «كان مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله 35 متراً في 30 متراً ثمّ زاده الرسول وجعله 57 متراً في 50 متراً»(2)129.


1- مسلم، الصحيح 6: 41.
2- الفقه على المذاهب الخمسة: 2850.

ص: 81

أفيمكن جعل اهتمامهم كاشفاً عن اهتمام جميع الناس بها في جميع العصور إلى يوم القيامة؟

الثالثة: وجود الاختلاف في عدد الليالي التي أقام النبي فيهما نوافل رمضان جماعة. فعلى ما نقله البخاري في كتاب الصوم انّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله صلّى التراويح مع الناس أربعة ليال، وعلى ما نقله في باب التحريص على قيام الليل، انّه صلاها ليلتين، ووافقه مسلم على النقل الثاني، ويظهر ممّا ذكره غيرهما- كما مرّ في صدر المقال- انّه صلى الله عليه و آله أقامها في ليال متفرّقة (ليلة الثالث، والخامس، والسابع والعشرين). وهذا يعرب عن عدم الإهتمام بنقل فعل الرسول على ما عليه، فمن أين تطمئن على سائر ما جاء فيه من أنّ النبي استحسن عملهم.

الرابعة: انّ الثابت من فعل النبي، انّه صلاها ليلتين، أو أربع في آخر الليل، وهي لا تزيد ثماني ركعات. فلو كان النبي أسوة فعلينا الاقتداء به فيما ثبت. لا فيما لم يثبت بل ثبت عدمه بما صرّح القسطلاني ووصف ما زاد عليه بالبدعة وذلك:

1- انّ النبي لم يسنّ لهم الاجتماع لها.

2- ولا كانت في زمن الصديق.

3- ولا أوّل الليل.

4- ولا كلّ ليلة.

5- ولا هذا العدد(1)130.


1- القسطلاني، ارشاد الساري 3: 426.

ص: 82

ثمّ التجأ في اثبات مشروعيّتها إلى اجتهاد الخليفة، وسيوافيك الكلام فيه.

وقال العيني: إنّ رسول اللَّه لم يسنّها لهم، ولا كانت في زمن أبي بكر. ثمّ اعتمد في شرعيّته إلى اجتهاد عمر واستنباطه من إقرار الشارع الناس يصلّون خلفه ليلتين (1)131. وسيوافيك الكلام فيه:

الخامسة: انّه إذا أخذنا برواية أحد الثقلين، (أهل بيت النبي) تُصبح إقامة النوافل جماعة بدعة على الاطلاق، وإن أخذنا برواية الشيخين، فالمقدار الثابت ما جاء في كلام القسطلاني، والزائد عنه يصحّ بدعة إضافية، حسب مصطلح الإمام الشاطبي، والمقصود منها ما يكون العمل بذاته مشروعاً، والكيفية التي يقام بها، غير مشروعة.

ولم يبق ما يحتج به على المشروعية إلّاجمع الخليفة الناس على إمام واحد وهو ما سنشرحه في البحث التالي:

جمع الناس على امام واحد في عصر عمر

روى البخاري: توفي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والناس على ذلك (يعني ترك إقامة التراويح بالجماعة) ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر، وصدراً من خلافة عمر(2)132.

وروى أيضاً عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنّه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فاذا الناس أوزاع


1- العيني، عمدة القارئ 11: 126.
2- البخاري، الصحيح، باب فضل من قام رمضان: الحديث 2010.

ص: 83

متفرّقون، يصلّي الرجلُ لنفسه، ويصلّي الرجلُ فيصلّي بصلاته الرهط(1)133.

فقال عمر: إنّي أرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل.

ثمّ عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب، ثمّ خرجت معه ليلة أُخرى والناس يُصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه. والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون- يريد آخر الليل- وكان الناس يقومون أوّله.

ولكن الظاهر من شراح الصحيح أنّ الإتيان جماعة لم تكن مشروعة وإنّما قام التشريع لعمله. وإليك بيانه في ضمن أمرين:

1- قوله: «فتوفى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والناس على ذلك، ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر» فقد فسّره الشراح بقولهم: أي على ترك الجماعة في التراويح، ولم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جمع الناس على القيام (2)134.

وقال بدر الدين العيني: والناس على ذلك (أي على ترك الجماعة) ثمّ قال: فإن قلت: روى ابن وهب عن أبي هريرة خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وإذا الناس في رمضان يصلّون في ناحية المسجد، فقال: «ما هذا؟» فقيل: ناس يصلّي بهم أبي بن كعب، فقال: «أصابوا ونعم ما صنعوا»، ذكره ابن عبد البر. ثمّ أجاب بقوله: قلت: فيه مسلم بن خالد وهو ضعيف، والمحفوظ أنّ عمر رضى الله عنه هو الذي جمع الناس على أُبي بن


1- الرهط: بين الثلاثة إلى العشرة.
2- فتح الباري، لابن حجر العسقلاني 4: 203.

ص: 84

كعب رضى الله عنه (1)135.

وقال القسطلاني: «والأمر على ذلك (أي على ترك الجماعة في التراويح) ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر، إلى آخر ما ذكره»(2)136.

2- قوله نعم البدعة؛ انّ الظاهر من قوله: «نعم البدعة هذه» انّها من سُنن نفس الخليفة ولا صلة لها بالشرع، وقد صرّح بذلك لفيف من العلماء.

قال القسطلاني: سماها (عمر) بدعة لأنّه صلى الله عليه و آله لم يسنّ لهم الاجتماع لها، ولا كانت في زمن الصديق، ولا أوّل الليل، ولا كلّ ليلة ولا هذا العدد- إلى أن قال:- وقيام رمضان ليس بدعة، لأنّ صلى الله عليه و آله قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، وإذا أجمع الصحابة مع عمر على ذلك زال عنه اسم البدعة».

وقال العيني: «وانّما دعاها بدعة، لأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يسنّها لهم، ولا كانت في زمن أبي بكر رضى الله عنه ولا رغب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيها»(3)137.

وهناك من نقل أنّ عمر أوّل من سنّ الجماعة، ونذكر منهم ما يلي:


1- عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري 6: 125، وجاء نفس السؤال والجواب في فتح الباري.
2- ارشاد الساري 3: 425.
3- عمدة القاري 6: 126 وقد سقط لفظة لا من قوله و «رغب» كما انّ كلمة بقوله- بعده هذه الجملة- في النسخة مصحف «قوله»، فلاحظ.

ص: 85

1- قال ابن سعد في ترجمة عمر: «هو أوّل من سنّ قيام شهر رمضان بالتراويح، وجمع الناس على ذلك، وكتب به إلى البلدان وذلك في شهر رمضان سنة أربع عشر»(1)138.

2- وقال ابن عبد البر في ترجمة عمر: «وهو الذي نور شهر الصوم بصلاة الاشفاع فيه»(2)139.

قال الوليد بن الشحنة عند ذكر وفاة عمر في حوادث سنة 23 ه:

«وهو أوّل من نهى عن بيع أمهات الأولاد ... أوّل من جمع الناس على امام يصلّي بهم التراويح»(3)140.

فاذا كان المفروض انّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يسنّ الجماعة فيها، وانّما سنّها عمر، فهل هذا يكفي في كونها مشروعة؟ مع انّه ليس لإنسان حتى الرسول حق التسنين والتشريع، وانّما هو صلى الله عليه و آله مبلّغ عن اللَّه سبحانه.

إنّ الوحي يحمل التشريع إلى النبيّ الأكرم وهو صلى الله عليه و آله الموحي إليه، وبموته انقطع الوحي، وسدّ باب التشريع والتسنين، فليس للأُمّة إلّا الاجتهاد في ضوء الكتاب والسنّة، لا التشريع ولا التسنين، ومن رأى انّ لغير اللَّه سبحانه حقّ التسنين فمعنى ذلك عدم انقطاع الوحي.

قال ابن الأثير في نهايته قال: ومن هذا النوع قول عمر رضى الله عنه: «نعم البدعة هذه (التراويح) لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سماها بدعة ومدحها، إلّاانّ النبيّ صلى الله عليه و آله لم يسنّها لهم، وإنّما صلّاها ليالي ثمّ تركها، ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس لها، ولا كانت في زمن أبي بكر، وانّما عمر رضى الله عنه جمع الناس عليها، وندبهم إليها، فبهذا سمّاها بدعة،


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى 3: 281.
2- الاستيعاب 3: 1145.
3- روضة المناظر كما في النص والاجتهاد: 150.

ص: 86

وهي في الحقيقة سنّة، لقوله صلى الله عليه و آله: «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي»، وقوله: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»(1)141.

التشريع مختصّ باللَّه سبحانه

إنّ هؤلاء الأكابر مع اعترافهم بأنّ النبي لم يسنّ الاجتماع، برّروا إقامتها جماعة بعمل الخليفة، ومعنا ذلك انّ له حقّ التسنين والتشريع، وهذا يضاد اجماع الأمة، إذ لا حقّ لإنسان أن يتدخّل في أمر الشريعة بعد إكمالها لقوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً» (المائدة/ 3) وكلامه يخالف الكتاب والسنّة، فانّ التشريع حقّ اللَّه سبحانه لم يفوضه لأحد، والنبي الأكرم مبلغ عنه.

أضف إلى ذلك لو انّ الخليفة قد تلقى ضوءاً أخضراً في مجال التشريع والتسنين، فلم لا يكون لسائر الصحابة ذلك، مع كون بعضهم أقرأ منه، كأبي بن كعب، وأفرض، كزيد بن ثابت، وأعلم وأقضى منه، كعليّ بن أبي طالب عليه السلام؟ فلو كان للجميع ذلك لانتشر الفساد وعمّت الفوضى أمر الدين، ويكون العوبة بأيدي غير المعصومين.

وأمّا التمسّك بالحديثين، فلو صحّ سندهما فانّهما لا يهدفان إلى انّ لهما حقّ التشريع، بل يفيد لزوم الاقتداء بهما، لأنهما يعتمدان على سنّة النبيّ الأكرم، لا انّ لهما حقّ التسنين.


1- ابن الأثير، النهاية 1: 79.

ص: 87

نعم يظهر مما رواه السيوطي عن عمر بن عبد العزيز أنّه كان يعتقد انّ للخلفاء حقّ التسنين، قال: قال حاجب بن خليفة: شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة، فقال في خطبته: ألا انّ ما سنّ رسول اللَّه وصاحباه فهو دين نأخذ به، وننتهي إليه، وما سنّ سواهما فإنا نرجئه (1)142.

وعلى كلّ تقدير نحن لسنا بمؤمنين بأنّه سبحانه فوّض أمر دينه في التشريع والتقنين إلى غير الوحي، وفي ذلك يقول الشوكاني: «والحقّ انّ قول الصحابي ليس بحجّة، فانّ اللَّه سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذه الأمة إلّانبيّنا محمداً صلى الله عليه و آله وليس لنا إلّارسول واحد، والصحابة ومن بعدهم مكلّفون على السواء باتّباع شرعه والكتاب والسنة، فمن قال انّه تقوم الحجة في دين اللَّه بغيرهما، فقد قال في دين اللَّه بما لا يثبت، وأثبت شرعاً لم يأمر به اللَّه (2)143.

نعم نقل القسطلاني عن ابن التين وغيره: انّ عمر استنبط ذلك من تقرير النبي صلى الله عليه و آله من صلّى معه في تلك الليالي وان كان كره لهم خشية أن يفرض عليهم. فلمّا غاب النبي حصل الأمن من ذلك، ورجح عند عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة، ولأنّ الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلّين (3)144.

يلاحظ عليه أولًا: أنّ ما ذكره في آخر كلامه ليبرّر جمع الناس


1- أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية- كما في بحوث أهل السنّة: 235.
2- أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية.
3- العسقلاني، فتح الباري 4: 204.

ص: 88

على إمام واحد، مكان الأئمة المتعدّدة، دونما إذا كان موضع النقاش إقامتها جماعة، واحداً كان الإمام أو كثيراً.

وثانياً: انّ معنى كلامه انّ هناك أحكاماً لم تسنّ مادام النبيّ حيّاً لمانع خاص، كخشية الفرض، ولكن في وسع آحاد الأمة تشريعها بعد موته صلى الله عليه و آله ومفاده فتح باب التشريع بملاكات خاصّة في وجه الأمة إلى يوم القيامة، وهذه رزيّة ليست بعدها رزية، وتلاعب بالدين واستئصاله.

*** ثمّ انّ لسيّدنا شرف الدين العاملي هناك كلاماً نافعاً نورده بنصّه، قال: كان هؤلاء عفا اللَّه عنهم وعنّا، رأوه رضى الله عنه قد استدرك (بتراويحه) على اللَّه ورسوله حكمة كانا عنها غافلين.

بل هم بالغفلة- عن حكمة اللَّه في شرائعه ونظمه- أحرى، وحسبنا في عدم تشريع الجماعة في سنن شهر رمضان وغيرها، انفراد مؤديها- جوف الليل في بيته- بربّه عزّ وعلا يشكو إليه بثّه وحزنه ويناجيه بمهمّاته مهمّة مهمّة حتى يأتي على آخرها ملحاً عليه، متوسلًا بسعة رحمته إليه، راجياً لاجئاً، راهباً راغباً، منيباً تائباً، معترفاً لائذاً عائذاً، لا يجد ملجأ من اللَّه تعالى إلّاإليه، ولا منجى منه إلّابه.

لهذا ترك اللَّه السنن حرّة من قيد الجماعة، ليتزوّدوا فيها من الانفراد باللَّه ما أقبلت قلوبهم عليه، ونشطت أعضاؤهم له، يستقلّ منهم من يستقل، ويستكثر من يستكثر، فانها خير موضوع، كما جاء في الأثر عن سيّد البشر.

أما ربطها بالجماعة فيحدّ من هذا النفع، ويقلّل من جدواه.

ص: 89

أضف إلى هذا انّ اعفاء النافلة من الجماعة يمسك على البيوت حظّها من البركة والشرف بالصلاة فيها، ويمسك عليها حظّها من تربية الناشئة على حبّها والنشاط بها، ذلك لمكان القدوة في عمل الآباء والأمّهات والأجداد والجدّات، وتأثيره في شدّ الأبناء إليها شدّاً يرسخها في عقولهم وقلوبهم، وقد سأل عبد اللَّه بن مسعود رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أيّما أفضل الصلاة في بيتي، أو الصلاة في المسجد؟ فقال صلى الله عليه و آله: «ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد، فلأن أصلّي في بيتي أحبّ إليّ من أن أصلّي في المسجد إلّاأن تكون صلاة مكتوبة» رواه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه، كما في باب الترغيب في صلاة النافلة من كتاب الترغيب والترهيب للامام زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري.

وعن زيد بن ثابت انّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «صلوا أيّها الناس في بيوتكم فانّ أفضل صلاة المرء في بيته إلّاالصلاة المكتوبة»، رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه.

وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم».

وعنه صلى الله عليه و آله قال: «مثل البيت الذي يذكر اللَّه فيه والبيت الذي لا يذكر اللَّه فيه مثل الحيّ والميّت» وأخرجه البخاري ومسلم.

وعن جابر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، وانّ اللَّه جاعل في بيته من صلاته خيراً»، رواه مسلم وغيره ورواه ابن خزيمة في صحيحه بالاسناد إلى أبي

ص: 90

سعيد. والسنن في هذا المعنى لا يسعها هذا الاملاء.

لكن الخليفة رضى الله عنه رجل تنظيم وحزم، وقد راقه من صلاة الجماعة ما يتجلّى فيها من الشعائر بأجلى المظاهر إلى ما لا يحصى من فوائدها الاجتماعية التي أشبع القول علماؤنا الأعلام ممن عالجوا هذه الأمور بوعي المسلم الحكيم، وأنت تعلم انّ الشرع الإسلامي لم يهمل هذه الناحية، بل اختصّ الواجبات من الصلوات بها، وترك النوافل للنواحي الأخر من مصالح البشر: «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللَّه ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم»(1)145.

خاتمة المطاف

إنّ عمل الخليفة، لم يكن إلّامن قبيل تقديم المصلحة على النصّ وليس المورد أمراً وحيداً في حياته، بل له نظائر في عهده نذكر منها ما يلي:

1- تنفيذ الطلاق الثلاث، بعدما كان في عهد الرسول وبعده طلاقاً واحداً.

2- النهي عن متعة الحج.


1- النص والاجتهاد: 151- 152.

ص: 91

المسألة السادسة: الطلاق ثلاثاً دفعة أو دفعات في مجلس واحد

اشارة

من المسائل التي أدّت إلى تعقيد الحياة الزوجيّة، ومزّقت وقطّعت صلات الأرحام في كثير من البلاد، هي مسألة تصحيح الطلاق ثلاثاً دفعة واحدة، بأن يقول: أنتِ طالق ثلاثاً، أو يكرّره ثلاث دفعات ويقول في مجلس واحد: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق. فتحسب ثلاث تطليقات حقيقةً، وتحرم المطلّقة على زوجها حتى تنكح زوجاً غيره.

إنّ الطلاق عند أكثر أهل السنّة غير مشروط بشروط يحول عدمها دون إيقاعه، ككون المرأة غير حائض، أو وقوع الطلاق في غير طهر المواقعة، أو لزوم حضور العدلين. فربّما يتغلّب الغيظ على الزوج

ص: 92

ويأخذه الغضب فيطلّقها ثلاثاً في مجلس واحد، ثمّ يندم على عمله ندامة شديدة تضيق عليه الأرض بما رحبت، فيطلب المَخلَص من ذلك ولا يجد عند أئمّة المذاهب الأربعة والدعاة إليها مخلصاً فيقعد ملوماً محسوراً، ولا يزيده السؤال والفحص إلّانفوراً عن الفقه والفتوى.

نحن نعلم علماً قاطعاً بأنّ الإسلام دين سهل وسمح، وليس فيه حرج، وهذا يدفع الدعاة المخلصين إلى إعادة دراسة المسألة من جديد دراسة حرّة بعيدة عن الأبحاث الجامدة، التي أفرزها غلق باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية وأن يبحثوا المسألة في ضوء الكتاب والسنّة، بعد التجرّد عن خلفية الفتاوى السابقة.

أما أهم تلك الأقوال فهي:

قال ابن رشد: «جمهور فقهاء الأمصار على أنّ الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة، وقال أهل الظاهر وجماعة: حكمه حكم الواحدة ولا تأثير للفظ في ذلك»(1)146.

قال الشيخ الطوسي: «إذا طلّقها ثلاثاً بلفظ واحد، كان مبدعاً ووقعت واحدة عند تكامل الشروط عند أكثر أصحابنا، وفيهم من قال: لا يقع شي ء أصلًا، وبه قال عليّ عليه السلام وأهل الظاهر، وحكى الطحاوي عن محمد بن إسحاق أنّه تقع واحدة كما قلناه، وروي أنّ ابن عباس وطاوساً كانا يذهبان إلى ما يقوله الإمامية.

وقال الشافعي: فإن طلّقها ثنتين أو ثلاثاً في طهر لم يجامعها فيه،


1- ابن رشد، بداية المجتهد 2: 62 ط بيروت.

ص: 93

دفعة أو متفرّقة، كان ذلك مباحاً غير محذور ووقع. وبه قال في الصحابة عبد الرحمن بن عوف، ورووه عن الحسن بن عليّ عليهما السلام، وفي التابعين ابن سيرين، وفي الفقهاء أحمد وإسحاق وأبو ثور.

وقال قوم: إذا طلّقها في طهر واحد ثنتين أو ثلاثاً دفعة واحدة، أو متفرّقة، فعل محرّماً وعصى وأثم. ذهب إليه في الصحابة عليّ عليه السلام وعمر، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس. وفي الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه ومالك، قالوا: إلّاأنّ ذلك واقع (1)147.

قال أبو القاسم الخرقي في مختصره: وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، لزمه تطليقتان إلّاأن يكون أراد بالثانية إفهامها أن قد وقعت بها الأولى فتلزمه واحدة. وإن كانت غير مدخول بها بانت بالأولى ولم يلزمها ما بعدها لأنّه ابتداء كلام.

وقال ابن قدامة في شرحه على مختصر الخرقي: «إذا قال لامرأته المدخول بها: أنت طالق مرّتين ونوى بالثانية إيقاع طلقة ثانية، وقعت لها طلقتان بلا خلاف، وإن نوى بها إفهامها أنّ الأُولى قدوقعت بها أو التأكّد لم تُطلّق إلّامرّة واحدة، وإن لم تكن له نيّة وقع طلقتان، وبه قال أبو حنيفة ومالك، وهو الصحيح من قولي الشافعي. وقال في الآخر: تطلّق واحدة».

وقال الخرقي أيضاً في مختصره: «ويقع بالمدخول بها ثلاثاً إذا أوقعها، مثل قوله: أنت طالق، فطالق فطالق، أو أنت طالق ثمّ طالق، ثمّ


1- الشيخ الطوسي، الخلاف، 2 كتاب الطلاق، المسألة 3. وعلى ما ذكره، نقل عن الامام عليّ رأيان متناقضان، عدم الوقوع والوقوع مع الاثم.

ص: 94

طالق، أو أنت طالق، ثمّ طالق وطالق أو فطالق».

وقال ابن قدامة في شرحه: «إذا أوقع ثلاث طلقات بلفظ يقتضي وقوعهنّ معاً، فوقعن كلّهنّ، كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً»(1)148.

وقال عبد الرحمن الجزيري: «يملك الرجل الحرّ ثلاث طلقات، فاذا طلّق الرجل زوجته ثلاثاً دفعة واحدة، بأن قال لها: أنت طالق ثلاثاً، لزمه ما نطق به من العدد في المذاهب الأربعة وهو رأي الجمهور، وخالفهم في ذلك بعض المجتهدين: كطاوس وعكرمة وابن اسحاق وعلى رأسهم ابن عباس- رضي اللَّه عنهم-»(2)149.

الى غير ذلك من نظائر تلك الكلمات التي تعرب عن اتّفاق جمهور الفقهاء بعد عصر التابعين على نفوذ ذلك الطلاق، ورائدهم في ذلك تنفيذ عمر بن الخطاب، الطلاق الثلاث بمرأى ومسمع من الصحابة. ولكن لو دلّ الكتاب والسنّة على خلافه فالأخذ بهما متعيّن.

دراسة الآيات الواردة في المقام

قال سبحانه:

«وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ انْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلَاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (البقرة/ 228).


1- ابن قدامة، المغني 7: 416.
2- عبد الرحمن الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة 4: 341.

ص: 95

«الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً الَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيَما حُدُودَ اللَّهِ فَانْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَآ حُدودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيَما افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (البقرة/ 229).

«فَانْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيَما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (البقرة/ 230).

«وَإذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ...» (البقرة/ 231).

جئنا بمجموع الآيات الأربع- مع أنّ موضع الاستدلال هو الآية الثانية- للاستشهاد بها في ثنايا البحث. وقبل الخوض في الاستدلال نشير إلى نكات في الآيات:

1- قوله سبحانه: «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ» كلمة جامعة لا يؤدّى حقّها إلّابمقال مسهب، وهي تفيد أنّ الحقوق بينهما متبادلة، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلّاوعلى الرجل عمل يقابله، فهما- في حقل المعاشرة- متماثلان في الحقوق والأعمال، فلا تسعد الحياة إلّا بالاحترام المتبادل بين الزوجين، وقيام كلّ بوظيفته تجاه الآخر، فعلى المرأة القيام بتدبير المنزل وإنجاز ما به من أعمال.

وعلى الرجل السعي والكسب خارجه، هذا هو الأصل الأصيل في حياة الزوجين الذي تؤيدها الفطرة، وقد قسّم النبيّ الأمور بين ابنته

ص: 96

فاطمة وزوجها عليّ عليه السلام فجعل شؤون البيت في عهدة ابنته، وعمل الخارج على زوجها- صلوات اللَّه عليهما-.

2- «المرّة» بمعنى الدفعة للدلالة على الواحد في الفعل، و «الإمساك» خلاف الإطلاق، و «التسريح» مأخوذ من السرح وهو الإطلاق يقال: سرح الماشية في المرعى: إذا أطلقها لترعى. والمراد من الإمساك هو إرجاعها إلى عصمة الزوجية. كما أنّ المقصود من «التسريح» عدم التعرّض لها، لتنقضي عدّتها في كلّ طلاق، أو الطلاق الثالث الذي هو أيضاً نوع من التسريح. على اختلاف في معنى الجملة.

وإن كان الأقوى هو الثاني وسيوافيك توضيحه ودفع ما أثار الجصاص من الإشكالين حول هذا التفسير بإذن اللَّه سبحانه.

3- قيّد الإمساك بالمعروف، والتسريح بإحسان، مشعراً بأنّه يكفي في الإمساك قصد عدم الاضرار بالرجوع، وأمّا الاضرار فكما إذا طلّقها حتى تبلغ أجلها فيرجع إليها ثمّ يطلّق كذلك، يريد بها الاضرار والإيذاء، وعلى ذلك يجب أن يكون الإمساك مقرناً بالمعروف، وعندئذٍ لو طلب بعد الرجوع ما آتاها من قبل، لا يعدّ أمراً منكراً غير معروف، إذ ليس اضراراً.

وهذا بخلاف التسريح، فلا يكفي ذلك بل يلزم أن يكون مقروناً بالإحسان إليها، فلا يطلب منها ما آتاها من الأموال. ولأجل ذلك يقول تعالى: «وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً» أي لا يحلّ للمطلق استرداد ما آتاها من المهر، إلّاإذا كان الطلاق خلعاً فعندئذٍ لا جناح عليها فيما اقتدت به نفسها من زوجها.

ص: 97

وقوله سبحانه: «فِيَما افْتَدَتْ بِهِ» دليل على وجود النفرة من الزوجة، فتخاف أن لا تقيم حدود اللَّه فتفتدي بالمهر وغيره لتخلّص نفسها.

4- لم يكن في الجاهلية للطلاق ولا للمراجعة في العدة، حدّ ولا عدّ، فكان الأزواج يتلاعبون بزوجاتهم يضارّوهنّ بالطلاق والرجوع ما شاءوا، فجاء الإسلام بنظام دقيق وحدّد الطلاق بمرّتين، فإذا تجاوز عنه وبلغ الثالث تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره.

روى الترمذي: كان الناس، والرجل يُطلِّق امرأته ما شاء أن يطلّقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدّة، وإن طلّقها مائة مرة أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته: واللَّه لا أُطلّقك فتبيني منّي، ولا آويك أبداً قالت: وكيف ذلك؟ قال: أُطلّقك فكلّما همَّت عدَّتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة فأخبرت النبي فسكت حتى نزل القرآن:

«الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ...»(1)150. 5- اختلفوا في تفسير قوله سبحانه: «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ» إلى قولين:

أ- إنّ الطلاق يكون مرّتين، وفي كلّ مرّة إمّا إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، والرجل مخيّر بعد إيقاع الطلقة الأُولى بين أن يرجع فيما اختار من الفراق فيمسك زوجته ويعاشرها بإحسان، وبين أن يدع زوجته في عدّتها من غير رجعة حتى تبلغ أجلها وتنقضي عدّتها.


1- الترمذي، الصحيح، 3 كتاب الطلاق، الباب 16، الحديث 1192.

ص: 98

وهذا القول هو الذي نقله الطبري عن السدي والضحاك فذهبا إلى أنّ معنى الكلام: الطلاق مرّتان فامساك في كلّ واحدة منهما لهنّ بمعروف أو تسريح لهنّ باحسان، وقال: هذا مذهب ممّا يحتمله ظاهر التنزيل لولا الخبر الذي رواه إسماعيل بن سميع عن أبي رزين (1)151.

يلاحظ عليه: أنّ هذا التفسير ينافيه تخلّل الفاء بين قوله: «مَرَّتَانِ» وقوله «فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ» فهو يفيد أنّ القيام بأحد الأمرين بعد تحقّق المرّتين، لا في أثنائهما. وعليه لابدّ أن يكون كلّ من الإمساك والتسريح أمراً متحقّقاً بعد المرّتين، ومشيراً إلى أمر وراء التطليقتين.

نعم يستفاد لزوم القيام بأحد الأمرين بعد كلّ تطليقة، من آية أخرى أعني قوله سبحانه: «وَإذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا»(2)152.

ولأجل الحذر عن تكرار المعنى الواحد في المقام يفسّر قوله:

«فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ» بوجه آخر سيوافيك.

ب- ينبغي على الزوج بعدما طلّق زوجته مرّتين، أن يفكّر في أمر زوجته أكثر ممّا مضى، فليس له بعد التطليقتين إلّاأحد أمرين: إمّا الإمساك بمعروف وإدامة العيش معها، أو التسريح باحسان بالتطليق الثالث الذي لا رجوع بعده أبداً، إلّافي ظرف خاص. فيكون قوله تعالى:

«أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ» إشارة إلى التطليق الثالث الذي لا رجوع فيه ويكون


1- الطبري، التفسير 2: 278 وسيوافيك خبر أبي رزين.
2- البقرة: 231. وأيضاً في سورة الطلاق: «فإذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف» (الطلاق/ 2).

ص: 99

التسريح متحقّقاً به.

وهنا سؤالان أثارهما الجصاص في تفسيره:

1- كيف يفسّر قوله: «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ» بالتطليق الثالث، مع أنّ المراد من قوله في الآية المتأخّرة «أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِإحْسَانٍ» هو ترك الرجعة، وهكذا المراد من قوله: «فَإذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» (الطلاق/ 2) هو تركها حتى ينتهي أجلها، ومعلوم أنّه لم يرد من قوله: «أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» أو قوله: «أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ»: طلّقوهنّ واحدة أُخرى (1)153.

ويلاحظ عليه: أنّ السؤال والإشكال الناشئ من خلط المفهوم بالمصداق، فاللفظ في كلا الموردين مستعمل في التسريح والطلاق، غير أنّه يتحقّق في مورد بالطلاق، وفي آخر بترك الرجعة، وهذا لا يعدّ تفكيكاً في معنى لفظ واحد في موردين، ومصداقه في الآية 229، هو الطلاق، وفي الآية 231، هو ترك الرجعة، والاختلاف في المصداق لا يوجب اختلافاً في المفهوم.

2- إنّ التطليقة الثالثة مذكورة في نسق الخطاب بعده في قوله تعالى: «فَانْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» وعندئذٍ يجب حمل قوله تعالى: «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ» المتقدم عليه على فائدة مجدّدة وهي وقوع البينونة بالاثنين (2)154 بعد انقضاء العدّة.

وأيضاً لو كان التسريح بإحسان هو الثالثة لوجب أن يكون قوله


1- الجصاص، التفسير 2: 389.
2- الأولى أن يقول: بكل طلاق.

ص: 100

تعالى: «فَإنْ طَلَّقَهَا» عقيب ذلك هي الرابعة، لأنّ الفاء للتعقيب قد اقتضى طلاقاً مستقلًا بعدما تقدّم ذكره (1)155.

والإجابة عنه واضحة، لأنّه لا مانع من الاجمال أولًا ثمّ التفصيل ثانياً، فقوله تعالى: «فَإنْ طَلَّقَهَا» بيان تفصيلي للتسريح بعد البيان الإجمالي، والتفصيل مشتمل على ما لم يشتمل عليه الاجمال من تحريمها عليه حتى تنكح زوجاً غيره. فلو طلّقها الزوج الثاني عن اختياره فلا جناح عليهما أن يتراجعا بالعقد الجديد إن ظنّا أن يُقيما حدود اللَّه، فأين هذه التفاصيل من قوله: «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ».

وبذلك يعلم أنّه لا يلزم أن يكون قوله: «فَإنْ طَلَّقَهَا» طلاقاً رابعاً.

وقد روى الطبري عن أبي رزين أنّه قال: أتى النبي صلى الله عليه و آله رجل فقال: يا رسول اللَّه أرأيت قوله: «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ» فأين الثالثة؟ قال رسول اللَّه: «إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ» هي الثالثة(2)156.

نعم الخبر مرسل وليس أبو رزين الأسدي صحابياً بل تابعي.

وقد تضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت أنّ المراد من قوله:

«أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ» هي التطليقة الثالثة(3)157.

إلى هنا تمّ تفسير الآية وظهر أنّ المعنى الثاني لتخلّل لفظ «الفاء» أظهر بل هو المتعيّن بالنظر إلى روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام.


1- الجصاص، التفسير 1: 389.
2- الطبري، التفسير 2: 278.
3- البحراني، البرهان 1: 221. وقد نقل روايات ست في ذيل الآية.

ص: 101

بقي الكلام في دلالة الآية على بطلان الطلاق ثلاثاً بمعنى عدم وقوعه بقيد الثلاث، وأمّا وقوع واحدة منها فهو أمر آخر، فنقول:

الاستدلال على بطلان الطلاق ثلاثاً

إذا عرفت مفاد الآية، فاعلم أنّ الكتاب والسنّة يدلّان على بطلان الطلاق ثلاثاً، وأنّه يجب أن يكون الطلاق واحدة بعد الأُخرى، يتخلّل بينهما رجوع أو نكاح، فلو طلّق ثلاثاً مرّة واحدة. أو كرّر الصيغة فلا تقع الثلاث. وأمّا احتسابها طلاقاً واحداً، فهو وإن كان حقاً، لكنّه خارج عن موضوع بحثنا، واليك الاستدلال بالكتاب أوّلًا والسنّة ثانياً.

أوّلًا: الاستدلال بالكتاب

1- قوله سبحانه: «فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ».

تقدّم أنّ في تفسير هذه الفقرة من الآية قولين مختلفين، والمفسّرون بين من يجعلها ناظرة إلى الفقرة المتقدّمة أعني قوله:

«الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ...» ومن يجعلونها ناظرة إلى التطليق الثالث الذي جاء في الآية التالية، وقد عرفت ما هو الحق، فتلك الفقرة تدلّ على بطلان الطلاق ثلاثاً على كلا التقديرين.

أمّا على التقدير الأوّل، فواضح؛ لأنّ معناها أنّ كلّ مرّة من المرّتين يجب أن يتبعها أحد أمرين: إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان.

قال ابن كثير: أي إذا طلّقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخيّر فيها ما دامت عدّتها باقية، بين أن تردّها إليك ناوياً الإصلاح والإحسان وبين أن تتركها حتى تنقضي عدّتها، فتبين منك، وتطلق سراحها محسناً إليها لا

ص: 102

تظلمها من حقّها شيئاً ولا تضارّ بها(1)158. وأين هذا من الطلاق ثلاثاً بلا تخلّل بواحد من الأمرين- الإمساك أو تركها حتى ينقضي أجلها- سواء طلّقها بلفظ: أنتِ طالق ثلاثاً، أو: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق.

وأمّا على التقدير الثاني، فإنّ تلك الفقرة وإن كانت ناظرة لحال الطلاق الثالث، وساكتة عن حال الطلاقين الأولين، لكن قلنا إنّ بعض الآيات، تدلّ على أنّ مضمونه من خصيصة مطلق الطلاق، من غير فرق بين الأولين والثالث فالمطلق يجب أن يُتبعَ طلاقه بأحد أمرين:

1- الإمساك بمعروف.

2- التسريح بإحسان.

فعدم دلالة الآية الأُولى على خصيصة الطلاقين الأولين، لا ينافي استفادتها من الآيتين الماضيتين (2)159. ولعلّهما تصلحان قرينة لإلقاء الخصوصية من ظاهر الفقرة «فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ» وإرجاع مضمونها إلى مطلق الطلاق، ولأجل ذلك قلنا بدلالة الفقرة على لزوم إتباع الطلاق بأحد الأمرين على كلا التقديرين. وعلى أيّ حال فسواء كان عنصر الدلالة نفس الفقرة أو غيرها- كما ذكرنا- فالمحصّل من المجموع هو كون اتباع الطلاق بأحد أمرين من لوازم طبيعة الطلاق الذي يصلح للرجوع.

ويظهر ذلك بوضوح إذا وقفنا على أنّ قوله: «فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» من القيود الغالبية، وإلّا فالواجب منذ أن يطلّق زوجته، هو القيام بأحد


1- ابن كثير، التفسير 1: 53.
2- الآية 231 من سورة البقرة والآية 2 من سورة الطلاق.

ص: 103

الأمرين، لكن تخصيصه بزمن خاص، وهو بلوغ آجالهن، هو لأجل أنّ المطلّق الطاغي عليه غضبه وغيظه، لا تنطفئ سورة غضبه فوراً حتى تمضي عليه مدّة من الزمن تصلح، لأن يتفكّر في أمر زوجته ويخاطب بأحد الأمرين، وإلّا فطبيعة الحكم الشرعي «فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ» تقتضي أن يكون حكماً سائداً على جميع الأزمنة من لدن أن يتفوّه بصيغة الطلاق إلى آخر لحظة تنتهي معها العدّة.

وعلى ضوء ما ذكرنا تدلّ الفقرة على بطلان الطلاق الثلاث وأنّه يخالف الكيفية المشروعة في الطلاق، غير أنّ دلالتها على القول الأوّل بنفسها، وعلى القول الثاني بمعونة الآيات الأُخر.

2- قوله سبحانه: «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ»

إنّ قوله سبحانه: «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ» ظاهر في لزوم وقوعه مرّة بعد أُخرى لا دفعة واحدة وإلّا يصير مرّة ودفعة، ولأجل ذلك عبّر سبحانه بلفظ «المرّة» ليدلّ على كيفية الفعل وأنّه الواحد منه، كما أنّ الدفعة والكرّة والنزلة، مثل المرّة، وزناً ومعنىً واعتباراً.

وعلى ما ذكرنا فلو قال المطِّق: أنت طالق ثلاثاً، لم يطلِّق زوجته مرّة بعد أُخرى، ولم يطلّق مرّتين، بل هو طلاق واحد، وأمّا قوله «ثلاثاً» فلا يصير سبباً لتكرّره، وتشهد بذلك فروع فقهية لم يقل أحد من الفقهاء فيها بالتكرار بضمّ عدد فوق الواحد. مثلًا اعتبر في اللعان شهادات أربع، فلا تجزي عنها شهادة واحدة مشفوعة بقوله «أربعاً». وفصول الأذان المأخوذة فيها التثنية، لا يتأتّى التكرار فيها بقراءة واحدة وإردافها بقوله «مرّتين». ولو حلف في القسامة وقال: «أُقسم باللَّه خمسين يمنياً أنّ هذا

ص: 104

قاتله» كان هذا يميناً واحداً. ولو قال المقرّ بالزنا: «أنا أُقرّ أربع مرّات أنّي زنيت» كان إقراراً واحداً، ويحتاج إلى إقرارات، إلى غير ذلك من الموارد التي لا يكفي فيها العدد عن التكرار.

قال الجصاص: «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ»، وذلك يقتضي التفريق لا محالة، لأنّه لو طلّق اثنتين معاً لما جاز أن يقال: طلّقها مرّتين، وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال: أعطاه مرّتين، حتى يفرق الدفع، فحينئذٍ يطلق عليه، وإذا كان هذا هكذا، فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلّق بالتطليقتين من بقاء الرجعة لأدّى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرّتين، إذ كان هذا الحكم ثابتاً في المرة الواحدة إذا طلّق اثنتين، فثبت بذلك أنّ ذكر المرّتين إنّما هو أمر بايقاعه مرّتين، ونهى عن الجمع بينهما في مرّة واحدة(1)160.

هذا كلّه إذا عبّر عن التطليق ثلاثاً بصيغة واحدة، أمّا إذا كرّر الصيغة كما عرفت فربّما يغترّ به البسطاء ويزعمون أنّ تكرار الصيغة ينطبق على الآية، لكنّه مردود من جهة أُخرى وهي:

أنّ الصيغة الثانية والثالثة تقعان باطلتين لعدم الموضوع للطلاق، فإنّ الطلاق إنّما هو لقطع علقة الزوجيّة، فلا زوجية بعد الصيغة الأولى حتى تقطع، ولا رابطة قانونية حتى تصرم.

وبعبارة واضحة: إنّ الطلاق هو أن يقطع الزوج علقة الزوجيّة بينه وبين امرأته ويطلق سراحها من قيدها، وهو لا يتحقّق بدون وجود تلك


1- الجصاص، أحكام القرآن 1: 378.

ص: 105

العلقة الاعتبارية الاجتماعية، ومن المعلوم أنّ المطلّقة لا تطلق، والمسرَّحة لا تسرح.

وربّما يقال: إنّ المطلقة ما زالت في حبالة الرجل وحكمها حكم الزوجة، فعندئذٍ يكون للصيغة الثانية والثالثة تأثير بحكم هذه الضابطة.

ولكن الإجابة عنه واضحة، وذلك لأنّ الصيغة الثانية لغوٌ جداً، لأنّ الزوجة بعدها أيضاً بحكم الزوجة. وإنّما تخرج عنه إذا صار الطلاق بائناً وهو يتحقّق بالطلاق ثلاثاً.

والحاصل: أنّه لا يحصل بهذا النحو من التطليقات الثلاث، العدد الخاص الذي هو موضوع للآية التالية، أعني قوله سبحانه: «فَإنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» وكيف لا يكون ذلك، وقد قال صلى الله عليه و آله:

«لا طلاق إلّابعد نكاح»، وقال: «لا طلاق قبل نكاح»(1)161.

فتعدّد الطلاق رهن تخلّل عقدة الزواج بين الطلاقين، ولو بالرجوع، وإذا لم تتخلّل يكون التكلّم أشبه بالتكلّم بكلام لغو.

قال السماك: إنّما النكاح عقدة تعقد، والطلاق يحلّها، وكيف تُحل عقدة قبل أن تعقد؟!(2)162 3- قوله سبحانه: «فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ»

إنّ قوله سبحانه: «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ»، وارد في الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع (3)163. ومن جانب آخر دلّ قوله سبحانه: «إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ


1- البيهقي، السنن الكبرى 7: 318-/ 321- الحاكم، المستدرك 2: 24.
2- المصدر نفسه 7: 321.
3- فخرج الطلاق البائن كطلاق غير المدخولة، وطلاق اليائسة من المحيض الطاعنة في السن وغيرهما.

ص: 106

فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ» (الطلاق/ 1). على أنّ الواجب في حقّ هؤلاء هو الاعتداد واحصاء العدّة، من غير فرق بين أن نقول: إنّ «اللام» في «عِدَّتِهِنَّ» للظرفية بمعنى «في عدّتهنّ» أو بمعنى الغاية، والمراد لغاية أن يتعددن، إذ على كلّ تقدير يدلّ على أنّ من خصائص الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع، هو الاعتداد واحصاء العدّة، وهو لا يتحقّق إلّا بفصل الأوّل عن الثاني، وإلّا يكون الطلاق الأوّل بلا عدّة وإحصاء ولو طلّق اثنتين مرّة. ولو طلّق ثلاثاً يكون الأوّل والثاني كذلك.

وقد استدلّ بعض أئمّة أهل البيت بهذه الآية على بطلان الطلاق ثلاثاً:

روى صفوان الجمّال عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: أنّ رجلًا قال له: إنّي طلّقت امرأتي ثلاثاً في مجلس؟ قال: ليس بشي ء، ثمّ قال: أما تقرأ كتاب اللَّه: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ- إلى قوله سبحانه- لَعَلَّ اللَّهُ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» ثمّ قال: كلّ ما خالف كتاب اللَّه والسنّة فهو يرد إلى كتاب اللَّه والسنّة(1)164.

أضف إلى ذلك: أنّه لو صحّ التطليق ثلاثاً فلا يبقى لقوله سبحانه:

«لَعَلَّ اللَّهُ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» فائدة لأنّه يكون بائناً ويبلغ الأمر إلى ما لا تحمد عقباه، ولا تحلّ العقدة إلّابنكاح رجل آخر وطلاقه مع أنّ الظاهر أنّ المقصود حلّ المشكل من طريق الرجوع أو العقد في العدّة.

ثانياً: الاستدلال بالسنّة

تعرّفت على قضاء الكتاب في المسألة، وأمّا حكم السنّة، فهي


1- عبد اللَّه بن جعفر الحميري، قرب الاسناد: 30- ورواه الحرّ العاملي في وسائل الشيعة ج 15، الباب 29، الحديث 25، من أبواب مقدّمات الطلاق.

ص: 107

تعرب عن أنّ الرسول كان يعدّ مثل هذا الطلاق لعباً بالكتاب.

1- أخرج النسائي عن محمود بن لبيد قال: أُخبر رسول اللَّه عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام غضباناً ثمّ قال: أيلعب بكتاب اللَّه وأنا بين أظهركم؟ حتى قام رجل وقال: يا رسول اللَّه ألا أقتله؟(1)165. إنّ محمود بن لبيد صحابي صغير وله سماع، روى أحمد باسناد صحيح عنه قال: أتانا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فصلّى بنا المغرب في مسجدنا فلمّا سلّم منها ...(2)166.

ولو سلمنا عدم سماعه كما يدّعيه ابن حجر في فتح الباري (3)167 فهو صحابي ومراسيل الصحابة حجة بلا كلام عند الفقهاء، أخذاً بعدالتهم أجمعين.

2- روى ابن اسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلّق ركانة زوجته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً، فسأله رسول اللَّه: كيف طلّقتها؟ قال: طلقتها ثلاثاً في مجلس واحد. قال: إنّما تلك طلقة واحدة فارتجعها(4)168.

والسائل هو ركانة بن عبد يزيد، روى الإمام أحمد باسناد صحيح


1- النسائي، السنن 6: 142- والسيوطي، الدر المنثور 1: 283.
2- أحمد بن حنبل، المسند 5: 427.
3- ابن حجر، فتح الباري 9: 315، ومع ذلك قال: رجاله ثقات، وقال في كتابه الآخر بلوغ المرام، 224: رواته موثّقون، ونقل الشوكاني في نيل الأوطار 7: 11 عن ابن كثير أنّه قال: اسناده جيد، أُنظر «نظام الطلاق في الإسلام» للقاضي أحمد محمد شاكر: 37.
4- ابن رشد، بداية المجتهد 2: 61- ورواه آخرون كابن قيم في إغاثة اللهفان: 156- والسيوطي في الدرّ المنثور 1: 279 وغيرهم.

ص: 108

عن ابن عباس قال: طلّق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً قال: فسأله رسول اللَّه: كيف طلّقتها؟ قال: طلّقتها ثلاثاً. قال، فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم. قال:

فإنّما تلك واحدة فرجعها إن شئت. قال: فأرجعها فكان ابن عباس يرى إنّما الطلاق عند كلّ طهر(1)169.

الاجتهاد مقابل النص

التحق النبيّ الأكرم بالرفيق الأعلى وقد حدث بين المسلمين اتّجاهان مختلفان، وصراعان فكريان، فعليّ ومن تبعه من أئمّة أهل البيت، كانوا يحاولون التعرّف على الحكم الشرعي من خلال النصّ الشرعي آية ورواية، ولا يعملون برأيهم أصلًا، وفي مقابلهم لفيف من الصحابة يستخدمون رأيهم للتعرّف على الحكم الشرعي من خلال التعرّف على المصلحة ووضع الحكم وفق متطلّباتها.

إنّ استخدام الرأي فيما لا نصّ فيه، ووضع الحكم وفق المصلحة أمر قابل للبحث والنقاش، إنّما الكلام في استخدامه فيما فيه نصّ، فالطائفة الثانية كانت تستخدم رأيها تجاه النص، لا في خصوص ما لا نصّ فيه من كتاب أو سنّة بل حتى فيما كان فيه نصّ ودلالة.

يقول أحمد أمين المصري: ظهر لي أنّ عمر بن الخطاب كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرناه، وذلك أنّ ما ذكرناه هو


1- أحمد بن حنبل، المسند 1: 265.

ص: 109

استعمال الرأي حيث لا نصّ من كتاب ولا سنّة، ولكنّا نرى الخليفة سار أبعد من ذلك، فكان يجتهد في تعرّف المصلحة التي لأجلها نزلت الآية أو ورد الحديث، ثمّ يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه، وهو أقرب شي ء إلى ما يعبّر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيّته (1)170.

إنّ الاسترشاد بروح القانون الذي أشار إليه أحمد أمين أمر، ونبذ النص والعمل بالرأي أمر آخر، ولكن الطائفة الثانية كانوا ينبذون النصّ ويعملون بالرأي، وما روي عن الخليفة في هذه المسألة، من هذا القبيل.

وإن كنت في ريب من ذلك فنحن نتلو عليك ما وقفنا عليه:

1- روى مسلم عن ابن عباس، قال: كان الطلاق على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم (2)171.

2- وروى عن ابن طاووس عن أبيه: أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم انّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه و آله وأبي بكر وثلاثاً من (خلافة عمر)؟ فقال: نعم (3)172.

3- وروى أيضاً: أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللَّه وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك فلمّا كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم (4)173.


1- أحمد أمين، فجر الإسلام: 238، نشر دار الكتاب.
2- . مسلم، الصحيح: 4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 1 و 2.
3- . مسلم، الصحيح: 4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 1 و 2.
4- مسلم، الصحيح: 4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 3. التتابع: بمعنى الاكثار من الشر.

ص: 110

4- روى البيهقي، قال: كان أبو الصهباء كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أنّ الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدة على عهد النبي صلى الله عليه و آله وأبي بكر رضى الله عنه وصدراً من إمارة عمر رضى الله عنه فلمّا رأى الناس قد تتابعوا فيها، قال: أجيزوهنّ عليهم (1)174.

5- أخرج الطحاوي من طريق ابن عباس أنّه قال: لمّا كان زمن عمر رضى الله عنه قال: يا أيّها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة وإنّه من تعجل أناة اللَّه في الطلاق ألزمناه إيّاه (2)175.

6- عن طاووس قال: قال عمر بن الخطاب: قد كان لكم في الطلاق أناة فاستعجلتم أناتكم وقد أجزنا عليكم ما استعجلتم من ذلك (3)176.

7- عن الحسن: أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري: لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة، ولكنّ أقواماً جعلوا على أنفسهم، فألزِم كلّ نفس ما ألزَمَ نفسه. من قال لامرأته: أنتِ عليَّ حرام، فهي حرام، ومن قال لامرأته:

أنتِ بائنة، فهي بائنة، ومن قال: أنتِ طالق ثلاثاً، فهي ثلاث (4)177.

هذه النصوص تدلّ على أنّ عمل الخليفة لم يكن من الاجتهاد فيما لا نصّ فيه، ولا أخذاً بروح القانون الذي يعبّر عنه بتنقيح المناط


1- البيهقي، السنن 7: 339- والسيوطي، الدر المنثور 1: 279.
2- العيني، عمدة القارئ 9: 537، وقال: اسناده صحيح.
3- المتقي الهندي، كنز العمال 9: 676، برقم 27943.
4- المتقي الهندي، كنز العمال 9: 676، برقم 27943.

ص: 111

واسراء الحكم الشرعي إلى المواضع التي تتشارك المنصوص في المسألة، كما إذا قال: الخمر حرام، فيسري حكمه إلى كلّ مسكرٍ أخذاً بروح القانون، وهو أنّ علّة التحريم هي الإسكار الموجودة في المنصوص وغير المنصوص، وانّما كان عمله من نوع ثالث وهو الاجتهاد تجاه النصّ ونبذ الدليل الشرعي، والسير وراء رأيه وفكره وتشخيصه، وقد ذكروا هنا تبريرات لحكم الخليفة، منها:

لمّا كان الحكم الصادر عن الخليفة يخالف نصّ القرآن أو ظاهره، حاول بعض المحقّقين تبرير عمل الخليفة ببعض الوجوه حتّى يتبرّر حكمه ويصحّحه ويخرجه عن مجال الاجتهاد مقابل النصّ بل يكون صادراً عن دليل شرعي، ومن تلك الوجوه:

1- نسخ الكتاب بالاجماع الكاشف عن النص:

إنّ الطلاق الوارد في الكتاب منسوخ، فان قلت: ما وجه هذا النسخ وعمر رضى الله عنه لا ينسخ، وكيف يكون النسخ بعد النبي صلى الله عليه و آله؟ قلت: لمّا خاطب عمر الصحابة بذلك فلم يقع إنكار، صار إجماعاً، والنسخ بالاجماع جوّزه بعض مشايخنا، بطريق أنّ الإجماع موجب علم اليقين كالنص فيجوز أن يثبت النسخ به، والإجماع في كونه حجّة أقوى من الخبر المشهور.

فان قلت: هذا إجماع على النسخ من تلقاء أنفسهم فلا يجوز ذلك في حقهم، قلت: يحتمل أن يكون ظهر لهم نص أوجب النسخ ولم ينقل إلينا(1)178.


1- العيني، عمدة القارئ 9: 537.

ص: 112

يلاحظ عليه أولًا: أنّ المسألة يوم أفتى بها الخليفة، كانت ذا قولين بين نفس الصحابة، فكيف انعقد الاجماع على قول واحد، وقد عرفت الأقوال في صدر المسألة. ولأجل ذلك نرى البعض الآخر ينفي انعقاد الإجماع البتة ويقول: «وقد أجمع الصحابة إلى السنة الثانية من خلافة عمر على أنّ الثلاث بلفظ واحد واحدة، ولم ينقض هذا الإجماع بخلافه، بل لا يزال في الأُمّة من يفتي به قرناً بعد قرن إلى يومنا هذا»(1)179.

وثانياً: أنّ هذا البيان يخالف ما برّر به الخليفة عمله حيث قال: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم، ولو كان هناك نصّ عند الخليفة، لكان التبرير به هو المتعيّن.

وفي الختام نقول: أين ما ذكره صاحب العمدة ممّا ذكره الشيخ صالح بن محمد العمري (المتوفى 1298) حيث قال: إنّ المعروف عند الصحابة والتابعين لهم باحسان إلى يوم الدين، وعند سائر العلماء المسلمين: أنّ حكم الحاكم المجتهد إذا خالف نصّ كتاب اللَّه تعالى أو سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وجب نقضه ومنع نفوذه، ولا يعارض نصّ الكتاب والسنّة بالاحتمالات العقليّة والخيالات النفسيّة، والعصبيّة الشيطانية بأن يقال: لعلّ هذا المجتهد قد اطّلع على هذا النصّ وتركه لعلّة ظهرت له، أو أنّه اطّلع على دليل آخر، ونحو هذا ممّا لهج به فرق الفقهاء المتعصّبين وأطبق عليه جهلة المقلّدين (2)180.


1- تيسير الوصول 3: 162.
2- العمري، ايقاظ همم أُولي الأبصار: 9.

ص: 113

2- تعزيرهم على ما تعدّوا به حدود اللَّه:

لم يكن الهدف من تنفيذ الطلاق ثلاثاً في مجلس، إلّاعقابهم من جنس عملهم، وتعزيرهم على ما تعدّوا حدود اللَّه، فاستشار أُولي الرأي، وأُولي الأمر وقال: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؟ فلمّا وافقوه على ما اعتزم أمضاه عليهم وقال: أيّها الناس قد كانت لكم في الطلاق أناة وأنّه من تعجّل أناة اللَّه ألزمناه إيّاه (1)181.

لم أجد نصّاً فيما فحصت في مشاورة عمر أُولي الرأي والأمر، غير ما كتبه إلى أبي موسى الأشعري بقوله: «لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة ...»(2)182 وهو يخبر عن عزمه وهمّه ولا يستشيره، ولو كانت هنا استشارة كان عليه أن يستشير الصحابة من المهاجرين والأنصار القاطنين في المدينة وعلى رأسهم عليّ بن أبي طالب، وقد كان يستشيره في مواقف خطيرة ويقتفي رأيه.

ولا يكون استعجال الناس، مبرّراً لمخالفة الكتاب والسنّة بل كان عليه ردع الناس عن عملهم السيّئ بقوّة ومنعة، وكيف تصحّ مؤاخذتهم بما أسماه رسول اللَّه لعباً بكتاب اللَّه (3)183.

يقول ابن قيم: إنّ هذا القول قد دلّ عليه الكتاب والسنّة والقياس


1- أحمد بن حنبل، المسند 1: 314، برقم 2877، وقد مرّ تخريج الحديث أيضاً، لاحظ نظام الطلاق في الإسلام لأحمد محمد شاكر: 79.
2- المتقي الهندي، كنز العمال 9: 676، برقم 27943.
3- السيوطي، الدر المنثور 1: 283.

ص: 114

والاجماع القديم، ولم يأت بعده اجماع يبطله ولكن رأى أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه أنّ الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم ليعلموا أنّ أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة، وحرمت عليه، حتى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة، يراد للدوام لا نكاح تحليل، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق المحرِّم، فرأى عمر أنّ هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أنّ ما كانوا عليه في عهد النبيّ وعهد الصدّيق، وصدراً من خلافته كان الأليق بهم، لأنّهم لم يتابعوا فيه وكانوا يتّقون اللَّه في الطلاق، وقد جعل اللَّه لكلّ من اتّقاه مخرجاً، فلمّا تركوا تقوى اللَّه وتلاعبوا بكتاب اللَّه وطلّقوا على غير ما شرّعه اللَّه ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم فإنّ اللَّه شرّع الطلاق مرّة بعد مرّة، ولم يشرّعه كلّه مرّة واحدة(1)184.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من التبرير لعمل الخليفة غير صحيح، إذ لو كانت المصالح المؤقتة مبرّرة لتغيّر الحكم فما معنى «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» ولو صحّ ما ذكره لتسرّب التغيّر إلى أركان الشريعة، فيصبح الإسلام العوبة بيد الساسة، فيأتي سائس فيحرِّم الصوم على العمال لتقوية القوّة العاملة في المعامل.

وفي الختام فقد تنبّه بعض علماء أهل السنّة في هذه العصور لما في تنفيذ هذا النوع من الطلاق، ولأجل ذلك تغيّر قانون محاكم مصر الشرعيّة، وخالفت مذهب الحنفية بعد استقلالها وتحرّرها عن سلطنة الدولة العثمانية.


1- ابن قيم، اعلام الموقعين 3: 36.

ص: 115

وللأسف أنّ كثيراً من مفتي أهل السنّة على تنفيذ هذا النوع من الطلاق، ولأجل ذلك يقول مؤلّف المنار بعد البحث الضافي حول المسألة: «ليس المراد مجادلة المقلّدين أو إرجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم، فإنّ أكثرهم يطّلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يبالي بها، لأنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب اللَّه وسنّة رسوله»(1)185.


1- السيد محمد رشيد رضا، المنار 2: 3861، ط الثالثة 1376 ه.

ص: 116

المسألة السابعة: النهي عن متعة الحج

أو الاجتهاد تجاه النصّ

إنّ الكاتب المصري أحمد أمين، يصف الخليفة عمر بن الخطاب بأنّه كان ممّن يأخذ بروح القانون لا بلفظه (1)186. وهو يريد بذلك تفسير ما شوهدت منه في بعض الموارد المخالفة للنصوص، ولو صحّ ما ذكره في بعضها فانّ البعض الآخر غير صحيح. ونحن نرى أنّه كان ممّن يجتهد تجاه النص، ويأخذ بالرأي، مكان الأخذ بالدليل.

إنّ العاطفة الدينية هي التي دفعت الكاتب المصري إلى ذلك التفسير، ولو أنّه تأمّل فيما سبق من تنفيذ الطلاق الثلاث، وما يأتي منه


1- أحمد أمين، فجر الإسلام 2: 238 نشر دار الكتاب.

ص: 117

في هذه المسألة من تحريم حجّ التمتّع، وحصره في القران والافراد، يقف على أنّه كان ممّن يقدّم المصلحة المزعومة على الذكر الحكيم وتنصيص النبيّ الأكرم، وإنّه ما نهى عن متعة الحج وما هدّد بفاعلها إلّا أنّه كان يكره أن يغتسل الحاج تحت الأراك ثم يفيض منه إلى الحجّ ورأسه يقطر ماءً، لأنّ التحلّل من محظورات الإحرام بين العمرة والحج، من لوازم ذاك النوع من الحج، وهو ممّا كان لا يروقه.

وإن كنت في شكّ فاقرأ ما نتلوه عليك:

اتّفق الفقهاء على أنّ أنواع الحجّ ثلاثة: تمتّع، وقران، وافراد.

والمقصود من الأول، هو إحرام الشخص بالحج في أشهره (شوال وذي القدة وذي الحجة). والإتيان بأعمالها، والتحلّل من محظورات الإحرام بالفراغ منها، ثمّ الإحرام بالحج من مكّة والإتيان بأعماله من الوقوف بعرفات والإفاضة إلى المشعر و ...

ويصحّ هذا النوع من الحج ممّن كان آفاقياً، أي من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ويبتعد بيته عن مكّة بمقدار يجوز فيه تقصير الصلاة. وعند الإماميّة من نأى عن مكة 48 ميلًا من كلّ جانب وهو لا يتجاوز عن 16 فرسخاً.

وأمّا القسمان الآخران، فالقران عند أهل السنّة هو الإحرام بالحج والعمرة معاً ويقول: لبّيك اللّهمّ بحجّ وعمرة، فيأتي بأعمال الحجّ أولًا ثمّ العمرة بإحرام واحد. وهو القران الحقيقي.

وهناك قسم يسمّى بالقران الحكمي، وهو أن يدخل إحرام الحج في إحرام العمرة ثمّ يجمع بين أعمالها. وذلك بأن يحرم بالعمرة أولًا،

ص: 118

وقبل أن يطوف لها، إمّا أربعة أشواط، أو قبل أن يشرع فيه يحرم للحج، على اختلاف بين الحنفية والشافعية، وهل يكتفي بطواف وسعي واحد، أو لكلٍّ طوافه وسعيه؟ فيه اختلاف.

وأمّا الافراد، فهو أن يُحرم بالحجّ من ميقاتِ بلده، وبعد الفراغ من أعماله، يُحرِم بالعمرة. والقران والافراد، يشترك فيهما جميع الناس ولا يختص بغير الآفاقي.

هذا لدى أهل السنّة وأمّا الإماميّة، فالقران والافراد واجب على من لم يكن بين مكة وبيته، 48 ميلًا، وأمّا النائي عن هذا الحد، فواجبه هو حجّ التمتع.

والقران والافراد، ليسا أمرين متغايرين عندهم، بل يتمتع كلّ منهما بإحرام للحج وإحرام للعمرة، غير أنّ الإحرام في الأوّل يقترن بسوق الهدي دون الثاني، وعلى ذلك لا يجوز عندهم الإتيان بالحجّ والعمرة بإحرام واحد، ولا إدخال إحرام الحجّ في إحرام العمرة، كما في القران الحكمي (1)187.

والأصل حجّ التمتع، كما في قوله سبحانه: «فَإذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ الَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فِصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (البقرة/ 196).

وتفسير الآية: انّ من «تمتع» بسبب الإتيان «بالعمرة» بما يحرم


1- لاحظ المختصر النافع للمحقّق الحلّي: 78- والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2: 391- والمغني لابن قدامة 3: 233- والفقه على المذاهب الأربعة للجزيري 2: 684 وغيرها.

ص: 119

على المحرم، كالطيب والمخيط والنساء ومتوجّها «الى الحجّ» فعليه «ما استيسر من الهدي» من البدنة أو البقرة أو الشاة. ثمّ بيّن كيفية الصيام وقال: «ثلاثة أيّام في الحجّ» متواليات و «سبعة إذا رجعتم» إلى أوطانكم «تلك عشرة كاملة وذلك» أي التمتع بالعمرة إلى الحجّ فرض على من لم يكن أهله باعتبار موطنه ومسكنه، «حاضري المسجد الحرام» أي لم يكن من أهل مكة وقراها «واتّقوا اللَّهَ» فيما أُمرتم به ونهيتم عنه في أمر الحج «واعلموا أنّ اللَّه شديد العقاب».

والآية صريحة في جواز التمتّع بمحظورات الإحرام بعد الإتيان بأعمال العمرة، وقبل التوجّه إلى الحج، ولم يدّع أحد كونها منسوخة بآية، أو قول أو فعل، بل أكّد النبيّ الأكرم تشريعه بعمله.

روى أهل السير والتاريخ: انّ رسول اللَّه خرج في العام العاشر من الهجرة إلى الحجّ لخمس ليال بقين من ذي القعدة، وقالت عائشة: لا يُذكَر ولا يَذكُر النّاسُ إلّاالحجّ حتى إذا كان بسرف وقد ساق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله معه الهدي، وأشراف من أشراف الناس، أمر الناس أن يحلّوا بعمرة إلّامن ساق الهدي- إلى أن قالت:- ودخل رسول اللَّه مكة فحلّ كلّ من كان لا هدي معه، وحلّت نساؤُه بعمرة،- إلى أن قال:- لمّا أمر رسول اللَّه نساءه أن يحلُلن بعمرة قلن: فما يمنعك يا رسول اللَّه أن تحلّ معنا؟

فقال: إنّي أهديتُ ولبّوت فلا أُحلّ حتى أنحَرَ هديي.

إنّ رسول اللَّه كان بعث علياً رضى الله عنه إلى نجران فلقيه بمكّة وقد أحرم فدخل على فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فوجدها قد حلَّتْ وتهيّأت فقال:

ما لك يا بنت رسول اللَّه؟ قالت: أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن نحلّ بعمرة

ص: 120

فحللنا، ثمّ أتى رسول اللَّه فلمّا فرغ من الخبر عن سفره قال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنطلق فطف بالبيت وحلّ كما حلّ أصحابك، قال: يا رسول اللَّه إنّي أهللتُ كما أهللتَ فقال: إرجع فاحلل كما حلّ أصحابُك، قال: يا رسول اللَّه إنّي قلت حين أحرمت: اللّهمّ إنّي أُهلُّ بما أهلَّ به نبيُّك وعبدُك ورسولُك صلى الله عليه و آله قال: فهل، معك من هدي؟! قال: لا. فأشركه رسول اللَّه في هديه وثبتَ على إحرامه مع رسول اللَّه حتى فرغا من الحجّ، ونحر رسول اللَّه الهدي عنهما(1)188.

هذا هو الذكر الحكيم المدعم بالسنّة وإجماع الأُمة، ومع ذلك نرى أنّ بعض الصحابة لا يروقه متعة الحج لا في عصر الرسالة ولا بعده بل يفتي بتحريمها! وإليك البيان:

1- روى أبو داود انّ النبيّ أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة، يطوفوا ثمّ يُقصِّروا ويُحلِّوا إلّامن كان معه الهدي فقالوا: أننطلق إلى منى وذكورنا تقطر، فبلغ ذلك رسول اللَّه فقال: «لو أنّي استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت»(2)189.

2- روى مالك، عن محمد بن عبد اللَّه أنّه سمع سعد بن أبي وقاص والضحّاك بن قيس عام حجّ معاوية بن أبي سفيان وممّا يذكران أن التّمتّع بالعمرة إلى الحج. فقال الضحاك بن قيس: لا يفعل ذلك إلّامن جهل أمر اللَّه عزّوجلّ. فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي، فقال الضحاك: إنّ عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك، فقال سعد: قد صنعها


1- ابن هشام، السيرة النبوية 2: 601- 602 و 4: 248- 249 (ط ج).
2- أبو داود، السنن 2: 156، رقم 1789.

ص: 121

رسول اللَّه وصنعناها معه (1)190.

3- وروي عن عبد اللَّه بن عمر أنّه قال: واللَّه لأن أعتمر قبل الحجّ وأهدي أحبّ إليّ من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجّة(2)191.

4- روى الترمذي عن سالم بن عبد اللَّه أنّه سمع رجلًا من أهل الشام وهو يسأل عبد اللَّه بن عمر عن التمتّع بالعمرة إلى الحج فقال عبد اللَّه بن عمر: هي حلال، فقال الشامي: إنّ أباك قد نهى عنها! فقال عبد اللَّه بن عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أم أمر أبي نتبع أم أمر رسول اللَّه؟ فقال الرجل: بل أمر رسول اللَّه، فقال: لقد صنعها رسول اللَّه (3)192.

5- روى مسلم عن أبي نضرة قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها، قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبد اللَّه فقال:

على يديّ دار الحديث وتمتّعنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلمّا قام عمر قال: إنّ اللَّه كان يُحلّ لرسوله ما شاء، بما شاء، وإنّ القرآن قد نزل منازلهُ، فأتمّوا الحجّ والعمرة للَّه كما أمركم اللَّه- إلى أن قال في الحديث:- فأفصلوا حجّكم من عمرتكم، فانّه أتمّ لحجّكم وأتمّ لعمرتكم (4)193.

ومن العجب أنّ الزرقاني يقوم بتصويب فتوى الخليفة ويعلّق على الرواية ويقول: الإتمام في قوله سبحانه: «فَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ»


1- الإمام مالك، الموطأ، كتاب الحج رقم 60- والترمذي، السنن، كتاب الحج رقم 823.
2- المصدر نفسه، رقم 61.
3- الترمذي، الصحيح، كتاب الحج، باب ما جاء في التمتع رقم 824.
4- مسلم، الصحيح 4: 38، كتاب الحج، باب في المتعة بالحج والعمرة.

ص: 122

يقتضي استمرارَ الإحرام إلى فراغ الحج ومنع التحلّل، والمتمتّع متحلّل ويستمتع بما كان محظوراً عليه (1)194.

يلاحظ عليه أولًا: لو صحّ ما ذكره من التفسير تلزم المعارضة بين صدر الآية، أعني قوله: «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ» وبين ذيلها الدالّة على جواز التمتّع بين الإحرامين بقوله: «فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةَ الَى الْحَجِّ» وهو كما ترى.

وثانياً: أنّ الإتمام يهدف إلى فعل كلّ من الحج والعمرة تماماً، بمعنى: إذا شرعتم في فعلِ كلّ فأتمّوه، مثل قوله: «وَاذَا ابْتَلَى ابْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» (البقرة/ 124) وقوله سبحانه: «ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ الَى اللَّيْلِ» (البقرة/ 187)، لا إلى الاستمرار.

وثالثاً: إذا كان التفسير تبريراً لنهي الخليفة، فهو في الوقت نفسه تخطئة للنبيّ الأكرم، حيث أمر أصحابه وأهل بيته بالتحلّل، وإنّما هو لم يتحلّل لسوقه الهدي.

نعم أراد الخليفة من قوله: «فافصلوا حجّكم من عمرتكم»، هو الإيتان بالعمرة في غير أشهر الحج. روى الجصاص عن ابن عمر أنّ عمر قال: أن تفرّقوا بين الحج والعمرة فتجعلوا العمرة في غير أشهر الحج، أتمّ لحجّ أحدكم (2)195.

6- روى الإمام أحمد عن أبي نضرة عن جابر قال: متعتان كانتا


1- تعليقة الزرقاني، المطبوعة على هامش صحيح مسلم 4: 38.
2- الجصاص، أحكام القرآن 1: 285.

ص: 123

على عهد النبيّ فنهانا عنها عمر رضى الله عنه فانتهينا(1)196.

7- روى ابن حزم في المحلّى بسنده قال: قال عمر بن الخطاب:

متعتان كانتا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأنا أنهى عنهما وأضرب عليهما- ثمّ قال:- هذا لفظ أيوب، وفي رواية خالد: أنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج (2)197.

8- لم يكن نهي الخليفة عن متعة الحج مستنداً إلى دليل شرعي وانّما نهى عنه لما كرهه أن يظلّوا معرّسين بهنّ في الأراك، ثمّ يروحون بالحج تقطر رؤوسهم (3)198.

وهذا هو الذي نوّهنا عنه في صدر البحث: أنّ الخليفة ومن لفّ لفّه، كانوا يقدّمون المصالح المزعومة على النصوص الشرعية مهما تضافرت وتواترت.

ثمّ إنّ المتأخّرين قاموا بحفظ كرامة الخليفة، فحرّفوا الكلم عن مواضعه وأوّلوا نهي الخليفة بوجهين:

1- قالوا: إنّ ما حرّمه وأوعد عليه، غير هذا، وإنّما هو أن يحرم الرجل بالحجّ حتى إذا دخل مكة فسخ الحجّ إلى العمرة، ثمّ حُلّ وأقام حلالًا حتى يهلّ بالحجّ يوم التروية(4)199.


1- الامام أحمد، المسند 1: 52- و 3: 325.
2- ابن جزم، المحلى 7: 107- الجامع لأحكام القرطبي 2: 392.
3- الامام أحمد، المسند 1: 50- ابن ماجة، السنن 2، كتاب الحج، باب التمتع بالعمرة إلى الحج، 2979- والبيهقى، السنن 5: 20.
4- القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 2: 2092.

ص: 124

وهذا كما ترى، لا يوافق ما مرّ من النصوص، خصوصاً ما نقلناه من المناظرة بين سعد والضحاك بن قيس من صحيح مسلم. ومن يقف على النصوص الكثيرة، والمناظرة الدائرة بين النبيّ وأصحابه، وبين الصحابة أنفسهم يطمئنّ انما نهى عن حجّ التمتع.

وقد روى البخاري عن مروان بن الحكم قال: شهدتُ عثمانَ وعليّاً- رضي اللَّه عنهما-، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلمّا رأى عليٌّ (النهي) أهلّ بهما: لبّيك بعمرة وحجّة قال: ما كنت لأدع سنّة النبي صلى الله عليه و آله لقول أحد(1)200.

2- إنّ نهي الخليفة عن متعة الحجّ لاختصاص إباحة المتعة بالصحابة في عمرتهم مع رسول اللَّه فحسب.

ويكفينا في الردّ عليه قول ابن القيم: «إنّ تلكم الآثار الدالّة على الاختصاص بالصحابة بين باطل لا يصحّ، عمّن نُسب إليه البتة، وبين صحيح عن قائل غير معصوم لا يعارض به نصوص المشرَّع المعصوم، ففي صحيحة الشيخين وغيرهما عن سراقة بن مالك قال: مُتعتُنا هذه يا رسول اللَّه ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: لا بل للأبد(2)201.

قال العيني في قوله سبحانه: «فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ الَى الْحَجِّ»: أجمع المسلمون على إباحة التمتّع في جميع الأعصار، وأمّا السنّة فحديث سراقة: «المتعة لنا خاصة أم هي للأبد؟ قال: بل للأبد»، وحديث جابر المذكور في صحيح مسلم في صفة الحج نحو هذا. ومعناه أنّ أهل


1- العيني، عمدة القارئ 5: 198.
2- صحيح البخاري 3: 148 كتاب الحج، باب عمرة التنعيم- مسند أحمد 3: 388 و 4: 175- سنن البهيقي 5: 19.

ص: 125

الجاهلية كانوا لا يجيزون التمتّع، ولا يرون العمرة في أشهر الحج، فبيّن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّ اللَّه قد شرّع العمرة في أشهر الحج وجوّز المتعة إلى يوم القيامة(1)202.

الحمد للَّه ربّ العالمين وصلّى اللَّه على سيّدنا محمد و آله الطاهرين وعلى عباد اللَّه الصالحين.

جعفر السبحاني

22 رمضان 1415 ه

(2)203


1- العيني، عمدة القارئ 5: 198.
2- آية الله الشيخ جعفر السبحاني، على مائدة العقيدة (08) سبع مسائل فقهية (دراسة مبسّطة لمسائل فقهية خلافية على ضوء الكتاب و السنة)، 1جلد، نشر مشعر - تهران، چاپ: 1.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.